البريد الإلكتروني: drsregeb11@gmail.com

مقالاتي

حديث البخاري في تحريم المعازف دراسة حديثية مع الرد على ابن حزم في تضعيفه للحديث وتأويله له ومن تابعه



حديث البخاري في تحريم المعازف

دراسة حديثية مع الرد على ابن حزم في تضعيفه للحديث وتأويله له ومن تابعه

كتبه: أ.د صالح حسين الرقب

    قال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر -أو أبو مالك- الأشعري والله ما كذبني: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ- لِحَاجَةٍ فَيَقُلُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ".

    الحديث صحيح لا شكَّ في صحته؛ فقد رواه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزومًا به، أي موصولاً على شرطه، وهو داخل في الصحيح.([1]) وقد أقرَّ بصحة هذا الحديث أكابر أهل العلم منهم الإمام ابن حبان، والإسماعيلي، وابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والطحاوي، والصنعاني، والنووي، وغيرهم كثير.

     قال الطبراني في كتابه مسند الشاميين: "حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد الدمشقي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر حدثني عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو عامر أو أبو مالك، والله ما كذبني...".([2]) وكذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه: أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا صدقة بن خالد قال: حدثنا ابن جابر قال: حدثنا عطية بن قيس قال حدثنا عبد الرحمن بن غنم قال: حدثنا أبو عامر وأبو مالك الأشعريان به.([3])

    ولقد زعم ابن حزم الظاهري أنَّ الحديث منقطع، انتُصارًا منه لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، بزعم أنَّ البخاري لم يصل سنده به، وبجهالة أبي مالك الأشعري! كما زعم في كتابه المحلى، وفي رسائله.([4]) ويقال هنا أنَّ ابن حزم لا يُعتدُّ بقوله في تصحيح الأحاديث أو تضعيفها، ولا يُعتدُّ بقوله في الرواة جرحاً أو تعديلاً، لكثرة أخطائه وأوهامه في هذا الجانب.([5])

      وممَّا يؤسف له أنَّ فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي تابع ابن حزم في وهمه، وقال به دون أنْ يراجع ما يُبيِّن له بطلانَ وهـم ابن حـزم، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وجواب هذا الوهم من عدة وجـوه :-

1- إنَ البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: "قال هشام" فهو بمنزلة قوله "عن هشام".

2- إنَّه لـو لم يسمع منـه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلاَّ وقد صـحَّ عنه أنَّه حـدَّث به. وهذا كثيراً ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشُهرته. فالبخاري أبعدُ خلق الله عن التدليس.

3- إنَّه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.

4- إن البخاري علّقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإنَّه إذا توقف في الحديث ولم يكن على شرطه يقول: "ويُروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ويُذكر عنه". ونحو ذلك: فإذا قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فقد جزم وقطع بإضافته إليه.

5- إنَّا لو أعرضنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث صحيح متصل عند غيره. كما بينت سابقا، وكما سيأتي من أقوال أهل العلم الذين ردَّوا على أوهام ابن حزم الظاهري.

   ثمَّ قال ابن القيم رحمه الله: "وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي، وعمران بن حصين، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبدالرحمن بن سابط، والغازي بن ربيعة ... ونحن نسوقها لتقرَّ بها عيونُ أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان".([6])

6- قال ابن حزم :ولا يصح في هذا الباب شيء، وكل ما فيه فموضوع، ووالله لو أسند جمعية، أو واحد منه فأكثر، من طريق الثقات إلى رسول الله  صلي الله عليه وآل وسلم لما ترددنا في الأخذ به.([7])

   أقول لابن حزم ومن يأخذ بأقواله في إباحة المعازف: لقد أسند أهل العلم رواية البخاري، وذكروا ما يدلَّ على صحته، وصحة غيره من الأحاديث في تحريم المعازف، لدرجة أنَّ بعض أهل العلم كفَّر من استحل المعازف.

     إذاً فعلى قول ابن حزم يبطل مذهبه في إباحة المعازف والغناء، ويبطل رأي من تابعه لصحة حديث البخاري، وغيره من الأحاديث الصحيحة التي احتجَّ بها علماء الأمة في التحريم.

     وإذا كان الحديث صحيحاً كغيره من أحاديث صحيح البخاري، فلا يلتفت إلى طعن ابن حزم الظاهري في هذا الحديث، ولقد ردَّ على زعمه غير واحد من أهل العلم بالحديث، وأذكر هنا أقوال عدد منهم:-

 1- العلامة أبو عمرو ابن الصلاح: قال: "ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري، من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".([8])

2- الإمام ابن قيم الجوزية: قال: "وأمَّا أبو محمد فإنَّه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، إنَّما في باب العشق والنظر، وسماع الملاهي المحرمة، فوسَّع هذا الباب جداً، وضيَّق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جداً، وهو مع انحرافه في الطرفين حين ردَّ الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في تحريم آلات اللهو بأنَّه معلَّق غير مسند، وخفي عليه أنَّ البخاري لقي من علقه عنه، وسمع منه، وهو هشام بن عمار، وخفي عليه أنَّ الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث عن غير هشام بن عمار، فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله، لا مطعن فيها بوجه".([9]) وقال: "ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم، نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع، لأن البخاري لم يصل سنده به. وجواب هذا الوهم من وجوه، فذكر منها: الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح، محتجا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك..".([10])

3- العلاَّمة ابن حجر العسقلاني: قال: "زعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح، معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري، قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".([11])

4- الحافظ ابن عبد الهادي: قال في ابن حزم: "وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه، وعلى أحوال الرواة".([12])

5- ابن حجر الهيتمي: قال: "قد حُكيَت آراء باطلة وآراء ضعيفة، مخالفة للاتفاق المذكور: منها: قول ابن حزم: لم يصح في تحريم العود حديث، وقد سمعه ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهم، وهو من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة، كيف والعود من جملة المعازف؟ وقد صحَّ في تحريمها الحديث المذكور آنفا، وما زعمه عن هذين الإمامين ممنوع، ولا يثبت ذلك عنهما، وحاشاهما من ذلك، مع شدَّة ورعهما وتحريمهما، وأتباعهما، وبعدهما من اللهو".([13])

6- الحافظ ابن رجب الحنبلي: قال: "هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مسند، فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري، وقد قيل إنَّ البخاري إذا قال في صحيحه قال فلان ولم يصرِّح بروايته عنه، وكان قد سمع منه فإنَّه يكون قد أخذه عنه عرضاً، أو مناولة، أو مذاكرة، وهذا كلَّه لا يخرجه عن أن يكون مسنداً، والله أعلم".([14])

 7- محمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري الهندي: قال: "قال ابن حزم: إن في البخاري تعليقاً والسند معنعن، والحال أن المحدثين أوصلوه، وأثبتوا السماع.. واعلم أن المعازف ما يضرب بالفم، والملاهي ما يضرب بالأيدي، وذهب جمهور الأئمة وأهل المذاهب الأربعة إلى التحريم، واستثنوا الطبل، والدهل، للتسحير، أو الوليمة، أو لغرض صحيح آخر".([15]) والدهل: الطبل الكبير.

8- قال الإمام السخاوي: لا تصغ لابن حزم، فقد صحَّحه ابن حبان، وغيره من الأئمة".([16])

9- قال الحافظ ابن كثير: "وأنكر ابن الصلاح على ابن حزم ردَّه حديث الملاهي، حيث قال فيه البخاري: وقال هشام بن عمار، وقال: أخطأ ابن حزم من وجوه، فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار".([17])

10- قال سراج الدين ابن الملقن عمر بن علي الأنصاري: "ولا التفات إلى ابن حزم الظاهري في ردِّه حديث البخاري في المعازف والحرير والحر بالانقطاع، فإنه أخطأ من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكون الحديث معروفاً من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه".([18])

 11- قال الحافظ العراقي: "إنَّ هذا الحديث حكمه الاتصال؛ لأنَّ هشام بن عمار من شيوخ البخاري حدَّث عنه بأحاديث...والحديث متصل من طرق: من طريق هشام وغيره".([19])

12- قال العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير: "والصحيح صحة الحديث، أي حديث هشام بن عمار بلا ريب، لما عرفت من ثبوت اتصاله".([20])

13- قال محمد بن إبراهيم بن جماعة: "وقد خَطِئَ ابن حزم الظاهري في ردِّه حديث أبي مالك الأشعري في المعازف، لقول البخاري فيه: قال هشام بن عمار، وساق السند وزعمه أنه منقطع بين البخاري وهشام، فإن الحديث معروف الاتصال بشرط الصحيح".([21])

 14- قال ابن تيمية: "والآلات الملهية قد صحَّ فيها ما رواه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً به، داخلاً في شرطه، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري".([22])

15- قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : "ووصله – أيضا– البيهقي، وابن عساكر، وغيرهم من طرق عن هشام بن عمار به، وله طرق أخرى عن عبد الرحمن بن يزيد، فقال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به، ورواه ابن عساكر من طريق أخرى عن بشر به... وهذا إسناد صحيح ومتابعة قوية لهشام بن عمار وصدقة بن خالد، ولم يقف على ذلك ابن حزم في " المحلی"، ولا في رسالته في إباحة الملاهي، فأعلَّ إسناد البخاري بالانقطاع بينه وبين هشام، وبغير ذلك من العلل الواهية التي بيَّنها العلماء من بعده، وردُّوا عليه تضعيفه للحديث من أجلها.([23])

   وهذا الحديث الشريف دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين:-

أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (يستحِلُّون)، فإنَّه صريحٌ بأنَّ المذكورات في هذا الحديث ومنها المعازف، هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك الأقوام من أمَّته صلى الله عليه وسلم. ومعنى (يستحِلُّونَها) يعلمون حرمتها، ومع ذلك يكابرون فيستحِلُّونَها  أي يفعلونها فعل المُستَحِلِّ لها، فلا ينكرونها ولا يدعونها.

     قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر والمعازف، على وجه الذم لهم، وأنِّ الله معاقبهم، فدلَّ هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها".([24]) وقال: "إنَّما ذاك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارًا, ولم يكونوا من أمَّته، ولو كانوا معترفين بأنَّها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين لم يزالوا يفعلون هذه المعاصي..".([25]    

     وقال العلاَّمة الشيخ علي القاري: "والمعنى: يعدُّون هذه الأشياء حلالاً، بإيراد شبهاتٍ وأدلَّةٍ واهيات".([26])  

      وقال الأمير الصنعاني: "قوله (يستحلون) بمعنى يجعلون الحرام حلالاً... فإنَّ من استحلَّ محرماً أي اعتقد حلَّه فإنَّه قد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبر أنَّه حرام، فقوله بحلِّه رد لكلامه وتكذيبه، وتكذيبه كفر، فلا بد من تأويل الحديث بأنَّه أراد أنَّه من الأمة قبل الاستحلال، فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة".([27])

     وإنَّا اليوم لنجد من يكابر، فيستحلّ الربا باسم الفائدة، ويحلّ شرب الخمور، ويرى أنَّها من ضرورات العصر والحضارة، نسأل الله تعالى العفو والعافية.

ثانيهما: ذكر المعازف مقرونة مع محرمات أخرى، معروف أنَّها محرمة مقطوع بحرمتها، لا يشكُّ في حرمتها أي مسلم، وهي: الزنا، والخمر ولبس الحرير للرجال، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها.([28]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فدلَّ هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها.([29])

      ومن العجيب أنَّ من رخَّص في المعازف - كابن حزم ومن سلك مذهبه من المعاصرين كالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي- زعم أنَّها حرام لو قرنت بما ذكر في الحديث، أي اجتمعت معهن، قلت: هذا تأويل بارد فاسد، فكلٌّ من الزنا، والخمر، ولبس الحرير للرجال، محرَّمة اجتمعت مع غيرها، أو انفردت وحدها، فَلِمَ يقال هذا فقط في المعازف؟!!. ومن قال إنَّ المحرم هو الجمع بين المذكورات في الحديث فقط، يلزم منه أنَّ الزنا المصرَّح به في الحديث لا يحرَّم إلاَّ عند شرب الخمر واستعمال المعازف، وأنَّ الخمر لا يحرَّم إلاَّ عند الزنا واستعمال المعازف، وهذا باطل بالإجماع، فمن القواعد الأصولية: (الجمع بين الأشياء في الوعيد يدل على تحريم كل منها بمفردها، أو لا يجمع بين محرم ومباح في الوعيد).([30])

      وفي توضيح هذه القاعدة يقول الشوكاني: "وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا: إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم، واحتج المثبتون لها بأن العطف يقتضي المشاركة، وأجاب الجمهور: بأن الشركة إنما تكن في المتعاطفات الناقصة، المحتاجة إلى ما تتم به، فإذا تمَّت بنفسها فلا مشاركة....أمَّا إذا كان المعطوف ناقصا، بأنْ لا يذكر خبره، كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، فلا خلاف في المشاركة، ومثله عطفت المفردات"([31]) ومعناها: أنَّه إذا جاء نص شرعي يتوعد بالعذاب على مجموعة أشياء معينة، فإنَّ هذا يدلُّ على تحريم كل واحدة منهما منفردة، لأنَّه لا يصحُّ أنْ يتوعد على مباح، ولا يصحُّ في الوعيد أنْ يضم إلى المباح محرم، فمثلاً يحسن أنْ يقال: إذا زنيت وشربت ماءً عذباً عاقبتك، فإنَّ الحكيم يتنزَّه عن مثل هذا القول، لأنَّ الزنا محرمٌ شرعاً، بينما شرب الماء العذب مباح شرعًا، فلا يجوز أنْ يُتوعَّد على مباح.([32])

      يقول الامام ابو إسحاق الشيرازى الشافعى: "لو لم يحرم كل واحد منهما على الانفراد, لمَا علَّق الوعيدَ عليهما على الاجتماع, فلمَّا علّق الوعيدَ عليهما دلَّ على تحريم كل واحد منهما على الانفراد، ألا ترى أنَّه لما قال:(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) الفرقان: 68، رجع هذا الوعيد إلى الأمرين جميعاً: القتل والزنا، وكل واحد منهما منفرد عن الآخر، فكذلك هاهنا".([33])

      ويقول العلامة ابن عابدين في كتابه (نسمات الأحرار): "لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد". وقال الشوكاني:" ويجاب بأنَّ الاقتران لا يدلُّ على أنَّ المحرمَ هو الجمع فقط، وإلاَّ لزم أنَّ الزنا المصرَّح به في الحديث لا يحرم إلاَّ عند شرب الخمر واستعمال المعازف، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضاً يلزم في مثل قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ  وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الحاقة:33-34، أنَّه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلاَّ عند عدم الحض على طعام المسكين، فإنْ قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر، فيجاب بأنَّ تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف".([34])

     وصدق ابن قيم الجوزية بقوله: "ووجه الدلالة منه أنَّ المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالاً لما ذمَّهم على استحلالها، ولَمَا قرن استحلالها باستحلال الخمر والحِرَ".([35])

     وقال ابن رجب الحنبلي: أكثرُ العلماء على تحريم سماع آلات الملاهي كلِّها، وكلُّ منها محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العلماء على ذلك.([36])

     أسأل الله تعالى التوفيق والسداد في القول والعمل.. والحمد لله رب العالمين

 



[1]- صحيح البخاري رقم 5590، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، والحديث صحيح، وقد وصله ابن حبان في  صحيحه رقم 6574، وقال الشيخ الألباني: صحيح وذكره في سلسلة الصحيحة رقم 91، وقال محقق صحيح ابن حبان الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، ورواه الطبراني في المعجم الكبير رقم 3339)، ورواه الطبراني في مسند الشاميين (588)، والبيهقي في السنن الصغرى 4320، والسنن الكبرى رقم 6317، و17073، و21516، وانظر الاستقامة: ابن تيمية 1/294؛ والسلسلة الصحيحة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم 91، وقال ابن القيم: "هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر، ويسميه بغير اسمه". إغاثة اللهفان 1/259. وقال الألباني: قلت: إسناده صحيح متصل،  انظر كتابه: تحريم آلات الطرب ص41.

[2]- أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، مسند عبد الرحمن بن زياد بن جابر، مسند ابن جابر عن عطية بن قيس الكلابي، (3341)، رقم (588).

[3]- أخرجه ابن حبان في صحيح، کتاب التاريخ، باب: إخباره - صلى الله عليه وسلم . عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، 15/154، رقم (6754)، والأرناؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: حديث صحيح.

[4]- المحلى: ابن حزم 9/59، ورسائل ابن حزم 1/434.

[5]- الردُّ على القرضاوي والجديع: عبد الله رمضان بن موسى ص 217.

[6]- إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/333-334.

[7]- المحلى 9/59.

[8]- مقدمة ابن الصلاح: أبو عمرو المعروف بابن الصلاح  ص67.

[9]- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: ابن قيم الجوزية ص 130.

[10]- إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/259، وانظر تغليق التعليق على صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني 5/22، وفتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر أبو الفضل العسقلاني 10/52.

[11]- فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/52.

[12]- طبقات علماء الحديث 2/349.

[13]- الزواجر عن اقتراف الكبائر: أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمي 2/337.

[14]- نزهة الأسماع في مسألة السماع: عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 39-40.

[15]- العرف الشذي شرح سنن الترمذي: محمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري الهندي 3/241.

[16]- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي 1/56-57.

[17]- الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: ابن كثير ص 4.

[18]- المقنع في علوم الحديث: سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري ص 150.

[19]- شرح التبصرة والتذكرة: الحافظ العراقي ص 45.

[20]- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني 1/135.

[21]- المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي: محمد بن إبراهيم بن جماعة ص 49.

[22]- الاستقامة: ابن تيمية 1/294.

[23]- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399ه-1979م، (1401).

[24]- مجموع الفتاوى: ابن تيمية 11/535.

[25]- إقامة الدليل على إبطال التحليل: ابن تيمية ص 45.

[26]- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: الملا على القاري 5/106.

[27]- سبل السلام شرح بلوغ المرام: محمد بن إسماعيل الصنعاني 3/33.

[28]- السلسلة الصحيحة للألباني- بتصرف- 1/140-141.

[29]- مجموع الفتاوى: ابن تيمية 11/535.

[30] - انظر الرد على القرضاوي والجديع: الشيخ عبد الله بن رمضان بن موسى ص 74.

[31]- إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول: محمد بن علي الشوكاني 2/197.

[32] - انظر الرد على القرضاوي والجديع: الشيخ عبد الله بن رمضان بن موسى ص 74.

[33]- التبصرة في أصول الفقه: إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي أبو إسحاق ص 350.

[34]- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار: محمد بن علي الشوكاني 8/179.

[35]- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: ابن قيم الجوزية 1/256.

[36]- نزهة الأسماع في مسألة السماع: عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 25.