الصَّلَةُ بَيْنَ التَّصوُّفِ والتَّشَيُّعِ
إنَّ الصَّلَةَ بَيْنَ التَّصوُّفِ والتَّشَيُّعِ حقيقةٌ تَحدَّثَ عنهَا كَثيرٌ من أهل العلمِ كابن خلدون وغيره ممن عقدوا مقارنات بين اعتقادات وطقوس الفريقين. وكانت الطرق الصوفية هي البداية العظيمة التي دخل عن طريقها الفكر الشيعي والمذهب الشيعي إلى العالم الإسلامي السنّي عن طريقتين مشهورتين تأسست الأولى في منتصف القرن السابع الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة البكتاشية، وتأسست الثانية في منتصف القرن السادس الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة الرفاعية.([1])
- فالقولُ بالقُطبِ والبِدلِ والنُجُبِ والوَتدِ، والغوثِ وغيرِه مِنَ مَراتبِ الوَلِيِّ لاَ يَختَلِفُ عَنِ القَوْلِ بِالنَّاطقِ، والتَّالي، والأساسِ، وغيرِه مِنْ مَرَاتبِ الأئمَّة عندَ الشَّيعَةِ الإسماعيليَّةِ إلاَّ بالاسمِ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولاَ تُوجَدُ هذهِ الأسماءُ في كَلامِ السَّلفِ كمَا هيَ علَى هذا التَّرتيبِ.. وهذا مِنْ جِنْسِ دَعوَى الرَّفضةِ أنَّه لابدَّ في كلِّ زَمَانٍ مِنْ إمامٍ مَعصومٍ يكونَ حُجَّةً اللهِ علَى المُكلَّفينِ لاَ يتمُّ الإيمانُ إلاَّ بِه، هذهِ المَراتبُ والتَّرتيبُ والأعدادُ لمْ يَأخذْها المُتَصَوِفّةِ إلاَّ مِنْ الشِّيعَةِ أيضًا، وخاصةً مِنَ الشِّيعَةِ الإسمَاعَيليَّةِ والنُصَيرِيَّةِ.([2])
- والقول بعصمة الولي عند الصوفي مشابه للقول بعصمة الإمام عند الشيعة. ([3])
- والكم الهائل من المزارات وأضرحة الأولياء عند المتصوفة يشبهُ تمامًا مَزَارَاتِ وأضرحةِ الأئمَّةِ عندَ الشِّيعَةِ.
- والغلو في إطراء الولي عندَ الصُّوفيَّةِ وتعظيمِه، واختلاقِ عجائبِ الكَرَاماتِ لَهُ مُشابهٌ للغُلُوِّ عندَ الشَّيعَةِ فِي الإمامِ وتعظيمِه. وطلبُ المَدَدِ من الوليِّ عندَ الصُّوفِيِّ والتَّحدثُ معَهُ وهوَ فِي قَبْرِه عندَ الصَّوفيَّة يُشبِهُ طَلبَ المَدَدِ من الأئمَّةِ عندَ الشَّيعَةِ وتَلَقِيَّ العلمَ عنهُم وَهُمْ فِي قبورِهِم.
- والقولُ بِالعلِمِ البَّاطِنِ والأسرارِ الإلهيَّةِ أصلُه مِنَ الشِّيعَةِ الذَينَ يَتحدَّثونَ عنَ العِلمِ البَّاطِنِ الذي آتاهُ اللهُ الأئمَّةَ.
قال ابن خلدون في مقدمته: "ثم حدث في المتأخرين من الصوفية: الكلام في الكشف وظهر من كثير منهم القول بالحلول والوحدة (وحدة الوجود) فشاركوا فيه الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم القول بالقطب والإبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء. وأشربوا أقوال الشيعة، وتوغلوا في الديانة بمذاهبهم حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليا ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة، واتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن علي من وجيما صحيحو لم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه، بل الصحابة كلهم أسوة في طريق الهدى. وفي تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية يفهم منها ومن غيرها دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه.
وأكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي: ابن عربي الحاتمي في كتابه (عنقاء مغرب)... تكلم فيه عن (خاتم الأولياء) وكنى عنه بلبنة الفضة... وجعلوا صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة التي هي (خاتمة النبوة).([4])
أول من أخذ عنه التصوف:
يَذْكُرُ كاملُ الشَّيبي أنَّ أَوَلَ مَنْ تَسمَّى بِالصُّوفِيَّةِ ثَلاثَةٌ كلُّهم مِنَ الشِّيعَةِ:
1- جابر بن حيان: كانَ تِلميذًا لجعفر الصادق، والشِّيعَةُ يُؤكِّدونَ تَلمَذَتَه لَهُ، وأنَّه بابٌ مِنْ أبوابِهِم.([5])
2- أبو هاشم الكوفي: كانَ أَوَّلَ مَنْ بَنَى خانقَاه للصُّوفيَّةِ، وأنَّه كانَ يِلبِسُ لِبَاسًا خاصًا بِالرُّهبَانِ، وكانَ يقولُ بِالحُلولِ والاتحادِ- وهذه معتقداتٌ الصوفية-، والشِّيعَةُ يَعظِّمونَهُ ويَصفُونَه بِمُخترِعِ الصُّوفيَّةِ.
3- عبدَك الصُّوفِي: كانَ أَخرَ شُيوخِ فِرقةٍ نِصفَ شِيعيَّةٍ ونِصفَ صُوفِيَّةٍ، تَأسَسَّتْ بالكوفةِ، وكانَ على رأسِ فرقةٍ مِنَ الزَّنادقةِ الذين زَعموا أنَّ الدنيا كُلُّها حرامُ، لاَ يَجوزَ الأخذَ منهَا إلاَّ القُوتَ. ([6])
4- معروف الكرخي: كانَ خادمًا لِموسى الكاظم، وأوَّلُ مَنْ فَتحَ الكلامَ على الوِلايَةِ في بغدادَ، ذَكروا أنَّه مَاتَ عندَ ازدِحامَ الشِّيعَةِ على بابِ عليٍ بنِ موسى([7]) وقدْ تَحدَّثَ الصُّوفِيَّةُ أنَّ معروفًا أخذَ الطَّريقَّةَ عن علىٍ بنِ موسى، وأخذَها الجنيْدُ عن مَعروفٍ، ثمَّ تَنَاقلَها الصُّوفِيَّةُ.
الخرقة وسندها:
إنَّ أصلَ تداولِ الخِرقةِ الصُّوفيَّةِ: يرتفعُ إلى الجُنيْدِ الذي أخذَهَا مِنْ خالِهِ السِّرِي السَّقطِي وهو لبسَهَا مِنْ معروفٍ الكرخي، وهو لَبِسَهَا من الشيخ داود الطائي، وهوَ لَبسَهَا مِنَ الشَّيخِ حبيبِ العَجمِي، وهوَ لَبِسَها مِنَ الشَّيخِ حسن البصري، وهوَ لَبِسَهَا مِنْ زَوجِ البَتولَ وابنَ عمِّ الرَّسولِ مولانا وسَيِّدَنَا عليٍ بنِ أبِي طالبٍ، وَهوَ لَبِسَهَا مِنَ النَبِيِّ المُعَظَّمِ.([8]) وهذَا سندٌ لا يَخفَى كَذِبُه، فإنَّ الحسنَ البَصرِيَّ لَمْ يُدْرِك عليًا، فإنَّه وُلِدَ لسنتين بقيتا مِنْ خلافةِ عمر، وكانَ الحَسنُ صغيرًا بِالبصرَةِ، في حينَ كانَ عليًا بِالكوفةِ آنذاك، والحسنُ إنَّمَا أخذَ عمَّن أخذوا عنِ عليٍ، كالأحنَفِ بنِ قيسٍ، وقيسٍ بنِ عَبَّاد. ويَعترِفُ الصيادي أحدُ كبارِ المُتَصَوِّفَةِ بأنَّ كثيرًا مِنْ كِبارِ الحُفَّاظِ كابنِ حجر العسقلاني والسَّخاوي والذَّهبي والحافظ العراقي أنكروا نِسبَةَ الخِرقةِ واتصالِ سَنَدِها، وأنَّه لمْ يَرِدْ فيها خبرٌ صحيحٌ ولاَ ضعيفٌ، وأنكروا سَمَاعَ الحسنِ البَصرِيِّ مِنَ الإمامِ عليٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.([9])
العلم الباطن:
لقد كَثُرَ الكذبُ على عليِ رَضَي الله عنه وأهلِ بيتِه الكرامِ، فزَعمَ التِّرمذيُّ الحكيمُّ أنَّ عليًا كانَ يبرزُ علَى عامَّةِ أصحابِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعلمِ التَّوحيدِ،([10]) وأنَّ سَلمانَ تَلقَّى علمَ البَّاطنِ عنْ عَليٍ، وأنَّ عليًا أخذَه عن رَسولِ اللهِ([11])، وَزعموا أنَّ العلمَ البَّاطنَ أخصُّ العلومِ. قالَ العارفُ الصُّوفِيُّ ابنُ عَجيبةَ: "أخذَنَا الطَّريقَ وعلمَ التَّحقيقِ عنْ أَوَّلِ الأقطابِ سَيِّدنَا الحسن سبط رسولِ الله عن والده أميرِ المؤمنين سيِّدَنَا عليٍ كرَّمَ الله وجههَ الذي هو بابُ مدينةِ العلم، عن نُخبَةِ الوجود سيِّدِ المرسلين وخاتَمِ النَّبييِّنَ سَيِّدَنَا ومولانَا محمدٍ رسولِ الله عَنْ سَيِّدِنَا جبريلَ عن الرَّبِ الجَليلَ".([12]) مَعْ أنَّ عَليًا رَضَي الله عنه أَنكَرَ أنْ يَختَصَّهُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشيءٍ مِنَ العلِمِ دونَ سِواهُ، وأكَّدَ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلًّم لمِ يَخُصْ آلَ بيتِه بِعلمٍ يَكتُمَه على النَّاسِ قائلاً: "مَا خَصَنَّا رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشيءٍ لمْ يَعَمِّمْ بِه النَّاسَ كافةً إلاَّ مَا في قِرَابِ سَيفِي هذا، وأخرجَ صحيفةً مَكتوبٌ فيها (لعنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لغيرِ اللهِ) قالَ: ومَا أَسرَّ إليَّ شيئًا كَتمَه النَّاسَ.([13])
ثمَّ إنَّ كَتْمَ العِلمِ ليسَ في الإسلام فيه فضيلةٌ، بلْ هُوَ خَيانَةٌ كمَا قالَ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ كتمَ علمًا لُجِمَ يومَ القيامةَ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ". وقال تعالى: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(. ومع ادعائِهم اختصاصِ عليٍ علَى غيرِه بعلمِ البَّاطِنِ فإنَّهُم يَنسبونَه إلى غيرهِ، كقولِهم أنَّ أبَا هُريرة أُعطِي جِرابينِ مِنْ العِلمِ عنْ رَسولَ الله، صرَّح بأحدِهمَا وكَتمَ الآخرَ. وإنَّما كتمَ أحاديثَ الفِتنِ والملاحمِ التي أخبرَه صلَّى الله عليه وسلَّم عنها. قالَ ابنُ تَيميَّة: "وهذَا الحديثُ صَحيحُ، لكنَّ الجِرابَ الآخرَ لَمْ يَكُنْ فيه شيءٌ مِنْ عِلمِ الدِّينِ ومعرفةِ الله وتوحيدِه الذي يَختَصُّ بِه أولياؤه، ولم يَكنْ أبو هريرة مِنْ أكابر الصَّحابةِ الذين يُخصُّونَ بِمثلِ ذلكَ لو كانَ هذا مِمَّا يُخَصُّ بِه، بلْ كانَ في ذلكَ الجِرابِ أحاديثُ الفتنِ التي تَكونُ بينَ المسلمين، ومِنَ الملاحمَ التي تَكونُ بَينَهُم وَبينَ الكُفَّارِ.
مصادر العلم الباطن:
وهذا العلم الباطن هو في الحقيقة إرث شيعي باطني. تحدث عنه الغزالي حين قسم العلوم إلى ظاهر وباطن وإلى لب وقشر.
فالظَّاهرُ: هو علمُ الشَّريعةِ، وهوَ بِمثَابَةِ القِشرَةِ. وأمَّا علمُ البَّاطنِ: فَهُوَ عِلمُ المُكاشفةِ، وهو غَايةُ العلومِ وأشرفُهَا.([14]) ويَصفْهُ الصَّيَادِيُّ الرِّفَاعِيُّ (بالعلمِ المَكتومِ) ([15]) وذَكرَ بأنّه: "مَا مِنْ آيةٍ مِنْ آياتِ القرآنِ إلاَّ ولهَا ظهرٌ وبَطنٌ، ولِبَطنِه بطنٌ إلى سَبعَةِ أَبْطُنٍ".([16]) وأنَّ لكلِّ شيءٍ ظاهرًا وباطنًا. وإنَّ مِنَ العلمَ كهيئةِ المَكنونِ، وغيرَ ذلك. وهذا العلمُ سِرٌ مِن أَسرارِ الله. ([17])
ويَحكَي الكلاباذيُّ أنَّ جبريلَ سَألَ اللهَ عَنْ عِلْمَ البَّاطِنِ فقالَ اللهُ لّهُ: "هُوَ سِرٌّ مِنْ سِرِي أَجعلُهُ في قلبِ عبدِي لاَ يَقفُ عليه أحدٌ مِنْ خَلْقِي".([18]) ثمَّ صارَ الصُّوفِيَّةُ يُفتِونَ فيه أهلَ التَّصوفِ كمَا يُفْتِيَ غيرَهم في العلمِ الظَّاهرِ، يروي الصوفيُّ يوسفُ النَّبهَانِي أنَّ الشَّيخَ محمدًا بن أبي الحسن البكري درسَ وأَفتَى فِي عِلْمي الظَّاهرِ والبَّاطِنِ.([19]) ويدعو الجُنَيدٌ رَبَّهُ أنْ يَجعلَهُ مِنْ الأمناءِ علَى سِرِّهِ".([20]) وقدْ حُرِمَ الشَّاذِليُّ من رؤيةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مدةً طويلةً، ثمَّ رآَهُ فسَألَهُ عَنْ سَببِ طُولِ غيابِه، فقالَ: "إنَّكَ لَسْتَ بِأهلٍ لِرؤيَتِنَا لأنَّكَ تُطْلِعُ النَّاسَ علَى أَسرَارِنَا". ([21])
قال الدكتور كامل الشيبي: "لمِ يَكُنْ أمرُ الصِّلةِ بَينَ الحَلاَّجِ والتَّشيُعِ مقصورًا على التَّداخلِ بَيْنَ كلامَه وكلامَ الأئمَّةِ، وإنَّمَا كانَ مطلقًا على مَذاهبِ التَّشَيُّعِ كلِّها، وقدْ استخدمَها كلَّها في بِناءِ مَذْهَبِهِ الحُلُولِيِ الجديدِ، الذي يُشيرُ إلى ظُهورِ حَرَكَةِ غُلُوٍ جديدةٍ في مَطلَعِ القرنِ الرابعِ الهجري. والحلاَّجُ هو القائلُ: مَا تَمذَّهبْتُ بِمذهبِ أحدٍ مِنَ الأئمَّةِ جملةً، وإنَّما أَخذتُ مِنْ كلِّ مَذْهبٍ أُصبعِه وأشدَّه، وأنَا الآنَ على ذلك", وكانَ الحلاَّجُ صورةً مِنْ أَبِي الخطَّابِ الزَّعيمِ الغالي الذي قُتِلَ في الكوفة سنة 138هـ،ـ وأمَّا علاقتُه بالاثنا عشرية فَتَنْعَكِسُ مِمَّا رَواه الطُّوسِيُّ مِنْ أنَّ الحلاّجَ صارَ إلى قُمْ البَلَدِ الشِّيعِيِّ القديمِ، وكانَتْ قَرَابَةُ أبي الحَسَنِ النُوبختي الشَّيعيِّ تَستَدْعِيَهُ وَيستدْعِيَ أبَا الحَسَنِ أيضًا، ويقول: "أنَا رَسولُ الإمامِ ووكيلُه".([22])
وقدْ ذكرَ القاضي التَّنوخِي أنَّ الحلاَّجَ أرَسلَ إلى بَعضِ دُعَاتِه يقول: "وقدْ آنَ الآنَ أذانَك للدِّولِ الغَرَّاء الفاطميةِ الزَّهراءِ المحفوفةِ بأهلِ الأرضِ والسَّماءِ، وأَذِنَ للفئةَ الظَّاهرَةِ وقُوَّةِ ضعفِها في الخروجِ إلى خَراسان ليكشفَ الحقُّ قناعَه، ويَبسِطَ العدلَ بَاعَهُ".([23])
إنَّ مِنَ الكُتُبِ المُقدَّسةِ عندِ الشِّيعةِ: كتابُ الجَفرِ، وهوَ عبارةٌ عَنْ كِتابِ طَلاسمٍ وشَعوذَةٍ تُعَظِّمُهُ الشِّيعَةُ الرَّوافضُ الاثنا عشريَّة وتَقدِّسًهُ، وتَزعمُ أنَّه وعاءٌ فيه علمُ النَّبيينَ والوَصِيينَ، وعلماءُ أمَّةِ بنِي إسرائيل، وفيهِ علِمُ مَا كانَ ومَا يكونُ مُفَصًلا إلى يوم القيامة.([24]) ومِنَ الصُّوفيَةِ مَنْ يُؤمِنُ بهذا الكتابِ ويُعَظِّمَه، كأتباعِ الطَّريقَةِ الرِّفاعيَّةِ، حيثُ يُصرِّحُ كبارُ أصحابِها بِأنَّهُم يؤمنونِ بكتابِ الجفرِ. فهذا المهديُّ الرواس منَ الرِّفاعيَّةِ يُصرِّحُ بِأنَّ الجفرَ عِلمٌ صانَه الله تعالى بآلَ البيت النبوي، وخصَّ بِه الأئمَّةَ، ووراثَ الأئمَّةِ مِنَ الأغواث والأقطاب والأنجاب، وفيه أَسرارٌ عظيمةٌ مِمَّا يَتعلَّقً بكلِّ وارثٍ منهم، وهُوَ عبارةٌ عمَّا يُحدِثُه فيهم، كَخِلاَفَةِ أميرِ المؤمنين علي عليه السلام وولده الحسن السِّبط الهُمام، وشبلُه المِقدام الحسيْن، ومَا سَيجرَيَ في عَهْدِ المَهدَيِّ سلامُ الله عليه ورضوانُه، وَهُوُ سِرٌ خاصٌ بِهمْ لاَ يَتعلَّقُ بِغيرِهم.([25])
وأمَّا مَا فيهِ مِنَ الأسرارَ الجَّوامعَ فَهِيَ مِنْ خَصائِصِ الوارثِ فِي كلِّ عهدٍ.([26]) ولقد كانَ للرِّواسِ نَصيبٌ مِنْ هذا الجَفرِ، فَقَدْ زَعمَ أنَّه لمَّا اجتمعَ بِقبرِ الشَّيخِ أحمد الصيَّادي الرِّفَاعَي قالَ لَهُ هذا الأخيرُ: "أَنْتَ مَنبعٌ يَجرِي منه نَهرٌ كَنهرَ النِّيلِ، قُلْتُ: دُلَّنِي، سلامٌ اللهِ عليكَ على هذا النَّهرِ الذي مثَّلتَهُ بِالنِّيلِ. فَذَكرَ أنَّ الصيَّادي تكرَّمَ عليه بإعطائِه بعضَ كلماتٍ مِنَ (الجفر) العلَويِّ الفَاطِمِيِّ، وحلَّ لَهُ أَسرَارَهَا".([27])
ولقد ذهبَ الصُّوفيُّ الشَّاذِليُّ الحَبشيُّ الهرريُّ أحمد منصور قرطام أنَّ واضعَ علمِ التَّصوُفِ على معنى التحقيق وأول من تكلم فيه وأظهره بهذه الطريقة المتعارف عليها هو علي بن أبي طالب عليه السلام، وأفعاله وأقواله قد جمعت في مصنفاتٍ، وذكر منها أربعة مصنفاتٍ، ثلاثةٌ منها كتبٌ شِيعيَّةٌ، وهي: (نهجُ البَلاغةِ، والصَّحيفةُ السَّجادِيَّةُ، وكتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة لعلي بن عيسى بهاء الدين الإربلي".([28])
ومعلوم أنَّ نهج البلاغة كتاب شيعي بامتياز، وكذلك الصَّحيفةِ السَّجادِيِّة المنسوبة زورًا لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو كتابٌ مُقدَّسٌ عندَ الشِّيعةِ، كما قالَ آيةُ الله الخُمينِيُّ: "نَفخرُ بمناجَاةِ أئمَّتِنَا الشَّعبانِيَّة، ودعاءِ الحُسيْنِ بنِ عليٍ (ع) في عرفات، والصَحيفةِ السَّجادِيَّةِ (زبور آل محمد)"، أو إنجيلُ آلِ محمدٍ.([29]) ويقول علامة الشيعة محمدٌ جواد مغنية الرئيس السابق للمحكمة الجعفرية ببيروت: "الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة وتقدّس كل حرف منها".([30]) ويزعمُ الشيعةُ بأنَّها من أهمِّ النُّصوص الإسلامية، وأكثرُها اعتماداً من بعد القرآن الكريم. وهو مجموعةُ أدعيةِ الإمام السَّجادِ (ع)، كُتبت بيدِ ولدهِ الإمام الباقر (ع) بحضورِ الإمام الصادق (ع) أيضاً. يقول راوي الكتاب في المقدمة أنَّ هذه الأدعيَّةَ كانت أولاً 75 دعاءً، فُقد منها 11 دعاءً. وما يُعرف اليوم بالصحيفة السَّجَادِيَّة الكاملة يحتوي على مجرد 54 دعاءً. وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليمٌ للدِّين والأخلاق في أسلوب الدعاء، أو دعاءٌ في أُسلوب تعليم للدِّين والأخلاق، وهي بحقٍّ بعدَ القرآن، ونهجُ البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي، وأرقى المناهل الفلسفية في الإلهيات.([31]) وأيضًا كتابُ(كشف الغمة في معرفة الأئمة) من الكتب الشيعية المشهورة، ومِنْ مصادرِهم المهمَّة، وهو كما نلاحظُ مصدرٌ في تلقي السنة عند الصوفية بإقرار الصوفي الشاذلي الحبشي الهرري أحمد منصور قرطام، وهذا يعني وجودَ الصِّلةِ بين التصوف والتشيع.
وقَدْ تَعرَّضَ المُتَصَوِّفَةُ للقتلِ والنَّفِي بِسَبَبِ مُعتقداتِهم، كالحلاَّج المصلوبِ، والسَّهرَوردي المقتولِ مِنْ قبلِ السلطان الناصر صلاح الدِّينِ، والحكيمِ التِّرمذِيِّ الذي نَفَوْهُ بعدَ أنْ شَهِدوا عليه بِالكُفْرِ، فكانَ هذَا العَلمُ البَّاطِنيِ نوعًا مِنَ التَّقيَّةِ الشِّيعيَّةِ، يظهرونَه تارةً، ويخفونَه تارةً أُخرَى. وذَكَرَ الشَّعرانِيُّ شعرًا مًنسوبًا للحُسَينِ بن علِيٍّ، وفيه:
يَا ربِّ جوهرُ علمٍ لَوْ بُحْتُ بِه لقيلَ أنتَ مِمَّن يَعبُّ الوَثنَا
ولاستحلَّ رِجالٌ مسلمون دَمِي يروْنَ أقبحَ مَا يَأتونَه حَسنًا([32])
ويقول الجنيد الصوفيُّ للشِّبلِي: "نَحنُ حبرَنَا هذا العلمَ تحبيرًا، ثمَّ خَبَّأنَاهُ في السَّراديبِ، فَجئِتَ أنتَ فأَظهرتَه على رُؤوسِ المَلأِ!". ([33])
إنَّ مِنَ العقائدِ المُشتركةِ بينَ الشِّيعَةِ والمُتَصوِّفَةِ عقيدتي الحلول ووحدة الوجود، فعقيدةُ الحلولِ تكاد تكون متطابقة عند الحلاَّج الصُّوفِي وغلاة الشيعة ومنهم أبِي الخَطَابِ الشِّيعِيِّ.
والشِّيعِيُّ آيةُ الله الخُمينِيِّ يقولُ بعقيدةِ الحلول الخاص: فيقولُ الخمينِيُّ عن حلولِ النَّبيِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالله تعالى: "والصلاةُ والسلامُ على أصلِ الأنوارِ ومحرَّمِ سرُّ الأسرارِ، المُستغرقِ في غيبِ الهويَّةِ، والمُنمَحي عنه التَّعيِناتِ السوائيَّة، أصلِ أُصولِ حقيقةِ الخلافةِ، وروحِ أرواحِ منصبِ الولايَةِ، المًستَتِرِ في حجابِ عزِّ الخِلال، والمُخمَّرِ بيدي الجلال والجمال، كاشفِ رموزِ الأَحديَّةِ بجملتها، ومُظهرِ حقائقِ الإلهيَّة برمَّتِها، المرآةُ الأتمّ الأمجدُ، سيدُنَا، أبي القاسم، محمدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله، الشموسُ الطالعةُ من فلكِ الخلافةِ الأحمديَّة (ص)، والبدورُ المنيرةُ من أُفِقِ الولايَة العُلُوِيَّةِ (ع)".([34]) وتًتَمثَّلُ صورةُ التَّصوفِ الحلوليِ الاتحادي عندَ الخُميني في أوضحِ مَظَاهرِهَا في عددٍ من كتبِه، منها: تعليقات على شرح فصوص الحكم لكاهن الصوفية ابن عربي. كما تظهر في بعض كتب الخميني نفسه، ومصباحُ الهدايَةِ إلى الخلافةِ والولايةِ، وسرُّ الصَّلاة، ورسالةُ لقاءِ الله، والجهادِ الأكبرِ جهاد النفس، والفناءُ في الحبِّ، وهذا الكتاب الأخير تُرجمَ بعدَ وفاةِ الخُمَيْنِي، وهو كتابٌ شعريٌ- نثريٌ، يتضمَّنُ خلاصةَ الأفكار الصوفيَّةِ للخُميني، والحبُّ يقصدُ بِه اللهَ، والفناءُ كما هو معروفٌ من أسِّ التُّصوفِ الفلسفيِ الكُفري، الذي يَعني جعلَ الوجودَ واحدًا، وقد وصفَ مقدمُ كتاب ديوان الخميني بأنَّه: أديبٌ تصوَّفٍ ودروشةٍ وعرفانٍ، "وإنَّه توصَّلَ إلى معرفة الله من خلال الكَشفِ القلبِي والفيضِ العشقِي الإلهِي العلوِي، وليس من التَّبحرِ بالقراءةِ في القرآنِ وعلوم الدِّين! وأنَّ "تعابيرَ الإمام العِشقيَّةِ والخمريَّةِ تمامًا كتعابيرِ أعلامِ العرفان الكبار، مثل: محي الدين بن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وعمر بن الفارض، وعبد الله الأنصاري".
يقول أبو منصور البغدادي: إنَّ الفرقَ الحلوليَّةَ التي ظَهرَتْ فِي التَّاريخِ الاسلامِيِ كلُّها تَزْعُمُ حلولَ رُوحِ اللهِ في أَجسَادِ طَوائفٍ مِنَ البَشَرِ، خاصةً كالأنبياءِ والأولياءِ والأَئمَّةِ، وتفصيلُ فرقِ الحلوليَّةِ يَرجِعُ في الأكثرِ إلى غُلاةِ الرَّوافِضِ.([35])
وعن حُلُولِ آلِ البَيْتِ وخَاصَةً أميرُ المؤمنينَ عليٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَيقولَ الخُمَينِيُّ: "الشموسُ الطَّالعةُ مِنْ فَلكِ الخِلاَفَةِ الأحمديَّةِ (ص)، والبدورُ المُنيرةُ من أُفقِ الوِلايَةِ العُلويَّةِ (ع)، سيِّمَا خليفتُهُ - يَعنِي خَليفةَ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم- القائمُ مقامُه في المُلكَ والملَكوتَ، المُتَحدِ بحقيقتِه فِي حَضْرَتِ الجَبَروتِ واللاَهوُتِ، أَصْلُ شَجَرةِ طُوبَى، وحقيقةُ سِدرةِ المُنتَهى، الرفيقُ الأعلى في مقامٍ أو أدنى، معلمُ الروحانِيِّين، ومؤيِّدُ الأنبياء والمرسلين عليٌ أميرِ المؤمنين".([36])
ولقد تجاوزَ الخُمَينِيُّ مرحلةَ القولِ بالحلول الجزئي، أو الحلولِ الخاصِ بعليٍّ إلى القول بالحلولِ العامِ .. فهو يقولُ: والعالمُ هو التَّعينُ الكلُّ، فهو اعتبارٌ وخيالٌ في خيالٍ عند الأحرارِ، والوجودُ من صقعه وحضرتِه لا حكمَ له بذاته؛ فلابدَّ للحكيمِ المُتَأَلِّهِ أنْ يَستهلِكَ التَّعيُنَاتَ في الحَضْرةِ الأِحديَّةِ".([37])
وما ذهبَ إليه الخُمَينِيُّ في قولِه السَّابقِ هُوَ نَفسُ مَا ذَهبَ إليه فيلسوفُ الصُّوفِيَّةِ ابن عربي في شرحِهِ لعقيدةِ وَحدَةِ الوُجودِ الكُفَريَةِ، حيثُ قالَ: "وإذا كانَ الأمرُ علَى مَا ذَكَرْتُهُ لكَ، فَالعالَمُ مُتَوِّهَمٌ مَا لَهُ وُجودٌ حَقِيقيٌ، وهذا مَعنَى الخَيالِ، أيْ خُيَّلَ لكَ أنَّهُ أمرٌ زَائدٌ قَائمٌ بنفسِهِ خَارجٌ عَنِ الحَقِّ، وليسَ كذلكَ فِي نَفسِ الأمْرِ".([38])
ومن العقائد المشتركة بين الشيعة والصوفية عقيدة الحقيقةِ المُحَمديَّة:
يقولُ الخُمينِي في بيانِ عقيدةِ الحَقِيقَةِ المُحَمديَّة: "أنَّ الخِلافَةَ النَّبويَّةَ ظَهرت تَمامَ الظُّهورِ فِي حَضْرةِ اسمِ "الله" الأعظمِ الذي هو ربُّ الحقيقةِ المُطلقةِ المُحَمديَّة: "هذه الخِلاِفَةِ هيِ روحُ الخِلافَةِ المُحمَّدِيَّةِ (ص)، وربِّها وأَصلُها ومبدؤهَا؛ مِنهَا بدأَ أصلُ الخِلافةِ في العوالِم كلِّها؛ بلْ أصلُ الخِلافَةِ والخليفةِ والمُستخلَفِ إليه. وهذِه ظَهرَت تمامَ الظُّهورِ في حَضرَةِ اسمِ "الله" الأعظمِ رَبِّ الحَقِيقَةِ المُطلقَةِ المُحَمَدِيَّةِ (ص)، أصلِ الحقائقِ الكُليَّة الإلَهيَّةَ. فَهِيَ أصلُ الخلافةِ، والخلافةُ ظهورُها؛ بلْ هِيَ الظَّاهرةُ فِي هذِهِ الحَضْرةِ، لاتحادِ الظَّاهرِ والمَظْهَرِ؛ كمَا أَشارَ إليه في الوِحْيِّ الإلهيِّ، إشارةً لطيفةً، بقول تعالى: (أنَّا أَنزْلنَاه في لَيلَةِ القَدْر). وقالَ شَيخُنا وأستاذُنا في المَعَارِفِ الإلهيَّة العارفُ الكاملُ الميرزا محمدٌ علي الشاه أبادي الأصفهاني.([39])... وسألتُهُ عَنِ كَيفيَّةِ الوَحْيِّ الإلَهِي في ضِمِنِ بيانَاتِه أنَّ "هاءَ" في قولِه تبارك وتعالى: "إنَّا أَنزلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدْرِ" إشارةٌ إلى الحقيقةِ الغِيبِيَّةِ النَّازِلةِ فِي بُنْيَةِ المُحمَّدِيِّةِ التي هِيَ حقيقةَ "ليلة القدر".([40])
مِمَّا لاَ رَيبَ فيه أنَّ الإيمانَ بالمهدي الإمامِ الثَّانِي عشر محمد بن الحسن العسكري الذي دخل في السرداب، وينتظر الشِّيعَةُ إلى اليوم خروجَه هو عقيدة مجمعٌ عليه من الشِّيعةِ، ولا يُجادِل فيها أحدٌ منهم. ومن طالع عقيدةَ المهدي عندَ مُؤرِّخِ الصُّوفِيَّةِ الشَّعرانيِ وطوائفِ مِنَ الصَّوفِيَّةِ لاَ يَزَالُ حيًا مُنذُ مِئاتِ السِّنين. فقدَ زَعمَ الشَّعرانِيُّ أنَّ شيخَهُ حسنَ العرَاقِي اجتَمَعَ بِالمَهدِيِ، وأقامَ المَهديُّ عندَه أُسبوعًا، وسألَهُ عن عُمرِهِ فأجابَه بِأنَّ عُمرَه ستمَائة سَنَةٍ، وأنَّه وُلِدَ سنةَ مائتين وقليل، قالَ الشَّعرانِيُّ: "فَسألتُ الكُمَّلَ مِنْ مَشَايِخِنَا فأجابوا بِذَلكَ سواءٌ بِسواءٍ".([41]) وكانَ بعضُ طوائفِ الرِّفَاعِيَّةِ يَتَرَدَّدُ على قبرِ الإمامِ موسى الكاظمِ، ويَجتَمِعُ بِالمهدِيِّ هناكَ.([42])
والمَهدِيُّ يُعتَبَرُ عندَ الشِّيعَةِ الإمام الثاني عشر. لكنَّ الصُّوفيَّةَ زادُوا واحدَا، وهُوَ الشَّيخُ أحمد الرِّفَاعي، فصارَ مَجموعُ الأئمَّةِ ثلاثةَ عَشَرَ. ودَليلُهم أضغاثُ أحلامٍ، رَأَوْا فيها النَّبِيِّ عليه السَّلامُ، وقالَ لَهُم: "وَلدي أحمدُ ثالثُ عشرَ أئمَّة الهُدَي مِنْ أهلِ بَيتِي".([43])
الغُلُوُّ والتَّقدِيسُ:
لَقَدْ اتَّفَقَ الصُّوفِيَّةُ والشِيعَةُ على مَنهجِ الغلوِ، وساروا عليه معًا، فَبينَمَا نَرَى الارتفاعِ بالأئمَّةِ عندَ الشِّيعَةِ إلى حدِّ التأليهِ، والزعمِ بأنَّهُم: أمانٌ لأهلِ الأرضِ كمَا أنَّ النُّجومَ أمانٌ لأهلِ السَّماءِ.([44]) ونَجدُ المُتصوِّفَةَ يَذهبونَ إلى أنَّ الشَّيخَ أحمدَ الرفاعي "كانَ أمانًا لأهلِ الأرضِ وظلاً ظليلاً على سَائِرِ الخَلْقِ". وأنَّ الأَجِنَّةَ فِي البُطونِ، وكلُّ مَنْ في السَّمواتِ والأرضِ شَهدوا بِمقامِ ولايتِهِ.([45])
وقدْ زَعمَ آيةُ الله الشِّيعِيُّ الخُمَينِيُّ أنَّ للإمَامِ مقامًا محمودًا ودرجةً سَامِيَةٌ وخلافةٌ تَكوينِيَّةٌ تخضعُ لولايتِها وسيطرتِها جميعُ ذَرَّاتِ هذَا الكونِ", ثم يقول: "وإنَّ منْ ضُرُورِيَّاتِ مَذْهَبِنَا أنَّ لأئمِّتِنَا مقامًا لا يَبْلُغُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولاِ نَبِيٌ مُرسَلٌ".([46]) ونَقَلَ الشَّعرَانِيُّ عنْ أحدِ المُتَصوِّفَةِ مِثْلَ قَولِه: "عليكُم بِتصدِيقِ القَوْمِ فِي كلِّ مَا يدعونَ، فإنَّ الله تعالى يَقذِفُ في سِرِّ خواصِ عبادِه مَا لاَ يَطَّلعَ عليه مَلَكٌ مٌقرَّبٌ ولا نَبِيٌ مُرسَلٌ".([47]) وروى الكليني أنَّ الأئمَّةَ عندَهُم علمٌ لاَ يَحتَمِلُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولاَ نَبِيٌ مُرْسَلٌ".([48])
لَقَدْ بَلَغَ الغُلُوُّ في أصْلِ الإمِامةِ عَنْدَ الشِّيعَةِ الاثنَا عِشرِيَة والشِّيعة الإسمَاعِيلِيَّةِ، وأمَّا الاثنَا عَشرية فإنَّ تفضيلَ الأئمة الاثنا عشر على الأنبياء عليهم السَّلامُ مِنْ أُصولِ مُعتقدَاتِهم، حيثُ غَالَتْ الشِّيعَةُ في أئمَّتِهِم فَوَضَعوُهُم فِـي دَرَجَةٍ أفضلَ مِنَ الأنبياءَ والرُّسلِ والملائكةِ المُقرَّبين، كمَا ذَكَرَ ذلك أكثرُ مِنْ عَالَمٍ شِيعيٍ، ولقدْ صَنَّفَ بَعضُ شُيوخِ الشِّيعَةِ كُتَبًا في بيان معتقدِهِم هذا.([49]) وعقدَ ثقةُ الإسلامِ عندَ الشِّيعَةِ أبو يعقوب الكُلَيْنِي فِي كِتَابِهَ الكَافِي بَابًا بِعنوان: (طَبَقَاتُ الأنبياءِ والرُّسلِ والأئمَّةِ)، وذَكرَ تَحتَهُ مَجمُوعَةً مِنَ الأحاديثِ التي استدلَّ بهَا عَلَى أنَّ رُتبَةَ الإِمَامَةِ فَوْقَ رُتبةِ النُّبوَّةِ. وزَعمَ أنَّ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ كانَ نَبيًا، ولَمْ يَكُنْ إِمَامًا، حتَّى قالَ الله تعالى في حقِّهِ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً).([50]) يَقصُدُ الكُلَينِيُّ أنَ مَرتبَةَ الإِمَامَةِ فَوقَ مَرتبَةِ النُّبوَّة، فإبراهيمُ عليه السَّلامُ استحقَّ الإمامةَ بعدَ مَرتَبةِ النُّبوَّةِ. وعقدَ محمدٌ باقر المجلسي في كتابِه (بحارُ الأنوار) بَابًا بِعنوانِ: "بابُ تَفضيلَهم عليهمُ السَّلامُ على الأنبيَاءِ وعلَى جَميعَ الخَلْقِ. وأخذَ مَيثاقَهُم عنْهُم وعَنِ الملائكةِ وعنْ سَائرِ الخَلْقِ، وأنَّ أولِي العَزمِ إنَّمَا صَاروا أُولِي العَزْمِ لِحُبِّهِم صَلوَاتُ اللهِ عليهِم. يَعنِي مَا صَاروا أُولِي عَزْمٍ إلاَّ بِسَبَبِ حُبِّهِم لآلِ البَيْتِ".([51])
وأمَّا الشِّيعَةُ الإسمَاعِيلِيَّةُ اعتبروا رُتبَةَ الإمامةِ أعظمَ قدرًا وأفضلَ منزلةً من النُّبوَّةِ والرِّسَالَة، فأطلقوا على النُّبوَّةِ والرِّسّالةِ رُتبَةَ (الاستيداع)، وأطلقوا على الإمِامةِ والوِصايةِ رُتبةَ (الاستقرار)، ولاَ شكَّ بأفضليِّةِ الرُّتبةِ الثَّانيةِ على الأولَى حَسْبِ أصولِ الإسماعيليَّةِ وقواعدِها.([52]) ونَفسُ هذا الاعتقادُ عندَ المُتصوفَةُ، فَهُمْ يُفَضِّلُونَ الوِلاَيَةَ علَى النُّبوةِ والرِّسَالَةِ.([53])
مملكة الألقاب الموهومة:
لَقْدْ كَوَّنَ الصُّوفِيَّةُ خلالَ تَطوِّرِ عَقيدَتَهِم نَظَامًا ومرَاتَبَ مُقدَّسَةَ، تَبدَأُ بَالقُطْبِ والأماميين والإبدالِ، والأوتاد، فالطَّريقةُ الصُّوفِيَّةُ البَكتَاشِيَّةُ([54]) تَدِينُ بالأئمَّةِ الاثنَا عَشْرِيَّةِ وسَائرِ تَفاصِيلِ المُعتقدِ الشِّيعِيِّ فهُمْ والشِّيعَةُ متفقونَ على عِصمةِ الأئمَّةِ والأولياءِ. والرِّفَاعِيَّةُ يَصومونَ عَنْ أكلِ اللُّحومِ، ويعتزِلونَ النَّاسَ ابتداًء مِنْ عَاشورَاء وحتَّى مُضِيِّ أُسبوع. وفِكرةُ الألقاب هذِه شَبَّهَهَا شيخ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ بمَا عندَ الشِّيعّةِ الإسمَاعِيلِيَّةِ والقَرَامِطَةِ.([55])
قالَ الأستاذُ أحمد أمين: "إنَّ الصُّوفِيَّةُ اتَّصَلَت بِالتَّشَيُّعِ اتصالاً وثيقًا، وأَخذَت فيمَا أَخذَت عنْهُ فِكرَةَ المَهدي وصاغتْها صِياغةً جَديدةَ، وسَمَّتْهُ قُطْبَا، وكَوَّنَتْ مَمْلَكةَ الأَرواحِ علَى نَمَطِ مَمْلَكةِ الأشباحِ، وعلى رَأْسِ هذه المملَكةِ: القُطْبُ: وَهُوَ الذي يُدَبِّرُ الأمرَ فَي كلِّ عَصْرٍ، وَهُوَ عِمَادُ السَّماءِ، ولوْلاَهُ لَوَقَعَتْ على الأرضِ. ويَلِي القُطْبَ النُّجباءُ، وهُمْ اثنَا عَشَرَ نَقِيبًا في كلِّ زَمانٍ, لاَ يَزيدونَ ولاَ يَنقُصُونَ, على عَدَدِ بُرُوجِ الفَلَك الاثني عشَرَ, كلُّ نَقيبٍ عالمِ بِخاصّيَّةِ كُلِّ بًرْجٍ، وبِمَا أَودَعَ اللهُ تعالى في مَقامِه مِنَ الأسرارَ والتَأثِيرَاتِ... وأعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى قَدْ جَعلَ بأَيدِي هؤلاءِ النُّقبَاءِ علومَ الشَّرائعِ المُنَزَّلةِ, ولَهُمْ استخراجُ خَبَايَا النُّفوسِ وغوائلَها, ومعرفةُ مَكرَهاتِها وخِدَاعِهَا, وإبليسٌ مَكشوفٌ عِندِهُم, يَعرِفونَ مِنْهُ مَا لاَ يَعرِفُه مِنْ نَفَسهِ, وهُمْ مِنَ العلْمِ بَحيثُ إذَا رَأى أحدُهم وطأةَ شَخْصٍ في الأرضِ عَلِمَ أنَّها وَطأةُ سَعيدٍ أوْ شَقيٍّ مِثْلَ العُلماءِ بالآثارِ والقيافة - القيافة: علم الأنساب- ".([56])
موقفهم من أئَمَّةِ آلِ البَيْتِ:
قد دخلَ فِي كُتُبِ الصُّوفيَّةِ مِنْ مَرويَّات الشِّيعَةِ التي وضعوها مَا يفيدُ تقديمِ عليٍ في الخلافة على الشَّيخيْن أبي بكرٍ وعمرَ رَضِيَ الله عنْهُمَا. فَنَجِدُ مثلاً أبَا نَعيمٍ الأصفهاني يروي أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: "مَا سَرَّه أنْ يَحيَا حَيَاتي ويموتُ مَمَاتِيَ ويَسْكُنُ جَنَّةَ عَدْنٍ غَرَسَها رَبِّيَ فليوال عَليًا مِنْ بَعدِيِ، وليوالِ وَليَّه".([57]) ويتفاخرُ الشَّعرَانِيُّ بِدخولِ الأئمَّةِ الاثنا عشرِ مصرَ خِصِّيصًا لزيارَتِهِ لأنَّهُم لاَ يَعلمونَ في مصرَ أحدًا يُحِبُّهُم مِثلَ مَحبَّتِهِ.([58])
الصُّوفيَّةُ الرِّفَاعِيَّةُ وموقفُهُم من أهل البيت:
إنَّ الرِّفَاعيَّةَ يَعتقدونَ بإمَامَةِ الإثنا عشرَ على النَّحوِ الذِي تقولُ بِه الشِّيعَةُ، ويجعلونَ شيخَهَم الرِّفَاعيَّ الإمامَ الثَّالثَ عشرَ بَعدَهِم. يقولُ الصيَّاديُّ: "وَلَمْ يَأتِ في أهلِ البَيْتِ الطَّاهرينَ بعدَ سّادَةِ الأئمَّةِ الإثنَا عشرَ سَلامُ اللهِ عليهِم، وَلِيُّ لله تعالى أَعظَمُ مَنزلَةٍ وأكملُ عرفانَا مِنَ الشَّيخَ أحمدَ الرِّفَاعي".([59]) ورَوَوْا عنِ الشَّيخِ عبدِ الجليل الهاشمي الرِّفاعِي أنَّه رأَى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقالَ لَهُ: "وَلدِي أحمدُ ثالثُ عشرُ الأئمَّة أئمَّةُ الهُدَى مِنِ أهلِ بَيْتِي. قالَ: فَكُنْتُ لاَ أقولُ بِإمَامَةِ الإثنا عشر أَئمَّةِ الهُدَى، فَبعدَ هذِه الرُؤيَا تَأَدَّبْتُ وقلتُ بإمامتِهم قولاً صالَحًا لاَ يَهدِمُ منارَةَ الإجماعِ".([60]) وإدراجُ الرِّفَاعَي ضِمْنَ الأئمَّةِ الإثنا عشرِ فيهِ إقرارٌ بأَحقِّيَتِهم في الإمَامَةِ على النَّحوِ الذي رَتَّبَتْهُ الشِّيعَةُ.
الصُّوفِيَّةُ الرِّفَاعِيَّةُ يَنتظرونَ مَهديَ الشِّيعَةِ:
لقدْ استشهَدَ الصّيَّادِيُّ بالمنامِ السَّابقِ، وذَكرَ أنَّ صاحبَ المَنَامِ لَمْ يَكُنْ يقولُ بإمامةِ الأئمَّةِ الإثنا عشر احترازًا مِنَ مُوَافَقةِ الشَّيعَةِ، لكنَّه وَافقَهُم بَعدَ هذهَ الرُّؤيَا. وتَحدَّثَ في كتَابِهِ عنْ أَسماءِ الأَئمَّةِ الإثنا عشر، وأخذَ يُعَدِّدُهَا: فَذَكرَ أوَّلَهُم عليًا رَضِيَ الله عنه، ثمَّ ذكرَ الثاني عشرَ مُحَمَدًا المَهدِي المُنتَظرِ الحُجَّة.([61]) وقَدْ زَعمَ الرَّواسُ الرِّفَاعِيُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قالَ: "تَمسَكْ بِوَلَدِي أحمد الرِّفَاعي، فإنِّه لاَ يَجِيءُ مِثْلُهُ إلى يومِ القيَامةِ إلاَّ سَمِيَّكَ، (يَعني مَنْ يُوافِقُ اسمُه اسمَكَ) المهدي بن العسكري تصلُ إلَى اللهِ فَهُوَ سَيِّدُ أولياءِ أُمَّتِي بَعدَ أولياءِ القرونِ الثَّلاثَةِ وأعظَمُهُم مَنزِلةً".([62]) وزعمَ أيضًا أنَّه أتَىَ قُبَّةَ موسى الكاظمِ بمدينة (طوس) فَبرَزَ له الإمامُ المَهدِّيُ الحُجَّةُ المنتظرُ فَكلَّمَهُ هُنَاكَ.([63])
أما كتاب (بوارق الحقائق) للمهدي الرواس الرفاعي فإنه من أكثر كتب الرفاعية الداعية إلى التشيع حيثُ سَطَّرَ فيه تنقلاتِه الكثيرةِ بينَ قبورَ أئمة أهل البيت، وذكرَ أنَّهم كانوا يخرجون مَا قبورهم واحدا واحدا أمامه. بل خرج له الأنبياء وأعطوه علوم الجفر وغيرها.
- ولقد وصف قبر الشيخ أحمد الصيادي بأنه (زيتونة لا شرقية ولا غربية، بتولية فاطمية سبطة محمدية عابدية باقرية جعفرية كاظمية مرتضوية أحمدية). ([64])
ويدعو الصيادي الرفاعي الله تعالى أن يعطف عليه قلب الأئمة لينال منهم حاجته، ويدفع بهم كربه. قائلا: "ونسأله تعالى أن يُعَطِفَ علينا قلب (صاحب الزمان)، وحاشيته الكرام الأعيان، جعلناهم وسيلتنا إلى الله، أخذناهم درعا لرد كل بلاء ودفع كل قضاء قبلناهم باباً لنيل كل خير".([65]) معناه أنه يدعو الله ليقربه إلى أئمته ومشايخه زلفى. وفي موضع أخر يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر صاحب الزمان وآله أن يساعدوه في قضاء حوائج دينه ودنياه.([66])
وزعمَ الصيَّادي المؤسسُ الثَّانِي للطَرِيقَةِ الرِّفَاعِيَّةِ أنَّه مُختَصٌ برِحمةِ الله تعالى، ووارثُ رَسولَ الله، والمختارُ مِنَ اللهِ الذي كَشفَ لَهُ الغَيْبَ، وعرَّفه أسرارَ الرُّموزِ القرآنِيَّةِ، وباطنَ القرآنِ، وأنَّه كَنزُ الفُيوضاتِ المُحمَّدِيَّةِ، وأنَّه إمامُ الوقتِ، والإماميَّةُ تظلُّ فيه وفي أعقابِهِ إلى يومِ القيامة. ومعلومٌ أنَّ هذه الدَّعاوِي جميعًا هِيَ مِنْ دَعَاوي الشِّيعَةِ فَي أَئمَّتِهِم.
ولقدَ جعلَ الصُّوفِيَّةُ مقابرَ أهلِ البَيتِ قبلتَهُم في الدُّعاءِ ووسيلتهم، فقالَ الصَيَّادِي الرِّفَاعِيُّ: "أنَّ السَّلفَ الصَّالحَ رَضِيَ اللهُ عنهُم صَحَّ عندَهمُ التَّوسُلُ بأهلِ بيتِ رسولِ الله وأولياء الله، واتَّخَذوا زِيارَةَ مقابرِهم والتَّوجَهَ إليهم والتَّوسُلَ إلى الله بجاههِم ذَريعةً لِقضِاءِ حوَائجِهِم".([67])
مَحبَّةُ أهلِ البَيتِ تَمحُو الذُّنوبَ:
إنَّ مِنْ أَوجُهَ التَّشابِه بَيْنَ الصُّوفِيَّةِ الرِّفَاعِيَّةِ والشِّيعَةِ اعتقادَ كِلاَ الفريقينَ برَاءةَ مُحِبِّ أهلِ البَيتِ مِنَ النَّارِ: فادَّعَى الصَّياديُّ أنَّ النَّبيَ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: "مَعرفَةُ آلِ مُحمَّدٍ بَراءةٌ مِنَ النَّارِ، وحُبُّ آلِ محمدٍ جوازٌ علَى الصِّراطِ، والوَلاَيَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ أمانٌ مِنَ العذابَ. ومَنْ مَاتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ ماتَ شهيدًا، ومَنْ ماتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ بشَّرَهُ مَلَكُ المَوتِ بِالجَنَّةِ، ومَنْ مَاتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ فُتِحَ لهُ فِي قبرِه بَابَانِ إلى الجَنَّةِ، ومَنْ مَاتَ على حُبِّ آلِ مُحمَّدٍ جَعَلَ اللهُ قبرَهُ مَزَارًا لِمَلائكَةِ الرَّحمَةِ".([68]) وأنَّهُ قَالَ: "الزَمُوا مَوَدَّتنَا أهلَ البَيْتِ، فإنَّ مَنْ لَقِيَ اللهَ عزَّ وجلَّ وهُوَ يَودَّنَا دَخلَ الجَنَّةَ بشفِاعتنِا، والذِي نَفسِي بيدِهِ لاَ يَنفعُ عبدًا عملُه إلاَّ بِمَعرِفَةِ حَقِّنَا"، وأضَافَ قائلاً: أَربَعةٌ أنَا لَهُمْ شَفيعٌ يومَ القيامةِ: المُكرِمُ لذُرِّيَتِي، والقاضِي لَهُمْ حوائجَهم، والسَّاعي لَهُم في أمورِهم، والمُحِبُّ لَهُم بِقلبِه ولِسَانِه".([69])
وهذا يَتَّفِقُ مَعْ مَا يقولُه الشِيعَةُ الذين يَزعُمونَ أنَّ الله تعالى قالَ: "لاَ أُدْخِلُ النَّارَ مَنْ عرَفَ أبَا طالبٍ، وإنْ عَصَانِيَ، ولا أُدْخِلَ الجَنَّةَ مَنْ أَنكرَهُ ولَوْ أَطَاعَنِي".([70]) ويزعمونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قالَ: "مَنْ رزقَه اللهُ حُبَّ الأئمَّةِ مِنْ أهلِ بَيْتِي فَقَدْ أَصابَ خيرَ الدُّنيا والآخرةِ فلاَ يشُكَّنّ أحدٌ أنَّه فِي الجَنَّةِ".([71])
ومعلومٌ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ لا ينكرون أنَّ حُبَّ أهل البيت إيمان، وهو جزء لا يتجزأ من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لكننا لا نحبهم على نحو محبة الشيعة لهم. فإنه لا يصير المرء عند الشيعة محباً لأهل البيت حقيقة حتى يستغيث بهم ويتمرغ على تراب قبورهم ويغلو في محبتهم. فإنَّه لمَّا سُئلَ شَيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن محبة آل البيت قال: "محبَّتُهم عندَنَا: فرضٌ وَاجبٌ، يُؤجَرُ عليه، فإنَّه قدْ ثبتَ عندنَا في صحيح مسلم عن زيدٍ بنِ أرقمِ قال: "خطبنَا رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِغديرٍ يُدْعَى خمًا، بَينَ مَكَّةَ والمدينةِ، فقالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إنِّي تَاركٌ فيكُم الثَّقَلَين، كتابُ الله"، فذكَرَ كتابَ اللهِ، وحضَّ عليه، ثمَّ قالَ: "وَعترَتِي أهلَ بيتَي، أَذْكُرُكُم اللهَ فِي أهلِ بَيتِي، أَذْكُرُكُم اللهَ في أهلِ بَيتَي، أَذْكُرُكُم اللهَ في أهلَ بَيتَي".([72])
وكذلك فأهلُ السُّنَّةِ يحِبُّونَ أهلَ البَيتِ مِنْ دونِ أنْ يعتقدونَ أنَّ حُبَّهُم يَمْحُو الذُّنوبَ، كما تقولُ بِه النَّصارَى في عِيسَى عليَه السَّلامُ. حيثُ يُعوِّلُ كلُّ منَ الصُّوفِيَّةُ والشِّيعَةُ علَى المَحبَّةِ ويطعنونَ فِي العملَ، ويَصرَفونَ النَّاسَ عنه. وهذهِ عقيدةٌ فاسدةٌ حيث سَتَزِيدُ العَاصيَ طُغيانًا، وتُحدِثُ عندَ الطائعَ إِحبَاطًا وكسَلاً في طَلِبِ العملِ والقيامِ بِهِ. ولئِنْ كانَ الحُبُّ كافيًا بزعمِ الفَرِيقَيْنِ للفَوْزِ بِالجَنَّةِ ومِحوِ الذُّنوبِ فمَا الفائدةُ من عملِ الصالحات وفعلِ الطَّاعاتِ؟.
[1]- انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة: عبد الرحمن بن عبد الخالق اليوسف، مكتبة ابن تيمية، الكويت، الطبعة الثالثة، 1406هـ-1986م ص 432-433.
[2]- انظر مجموعة الرسائل والمسائل: ابن تيمية، طيعة بيروت 1983م 1/57– 60، مجموعة فتاوى ابن تيمية 11/433، 434، 439.
[3]- عصمة الأمام عند الشيعة من أهم مقومات الإمامة، لأنَّ وارثَ النَّبِيِّ وارثٌ لخصائصِه ومزاياه. فالإمامُ "كالنَّبِيِّ يجبُ أنْ يكونَ مَعصومًا من جميع الرَّذائلِ والفواحشِ، ما ظهرَ منهَا وما بطنَ، مِنْ سِنِّ الطُّفولةِ إلى الموتِ عمدًا وسهوًا، كمَا يَجبُ أنْ يَكونَ معصومًا مِن السَّهوِ والخطاءِ والنِسيانِ". انظر عقائد الأمامية: محمد رضا المظفر، طبعة دار الزهراء ص 104.
[4]- مقدمة أبن خلدون ص 323-324.
[5]- الأعلام للزركلي 2/103، الصلة بين التصوف والتشيع ص 266.
[6]- الصلة بين التصوف والتشيع ص 271.
[7]- الصلة بين التصوف والتشيع ص 356-357.
[8]- قلادة الجواهر ص 274.
[9]- تطبيق حكم الطريقة العلية: للصيادي الرفاعي ص 278- 279.
[10]- نوادر الأصول 205.
[11]- ترياق المحبين: للواسطي ص 7.
[12]- الفتوحات الألهية ص 266، وهذا السند (ظلمات بعضها فوق بعض)
[13]- رواه مسلم (1978).
[14]- تطبيق حكم الطريقة العلية: للصيادي الرفاعي ص 278- 279.
[15]- ميزان العمل ص 111.
[16]- الرسالة اللدنية ص107.
[17]- جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 258.
[18]- التعرف لمذهب أهل التصوف.
[19]- جامع كرامات الأولياء 10/180.
[20]- حلية الأولياء 10/180.
[21]- طبقات الشعراني 2/75.
[22]- الصلة بين التصوف والتشيع: الدكتور كامل الشيبي ص 368.
[23]- نشوار المحاضرة ص 86، نقلاً عن الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة: عبد الرحمن بن عبد الخالق اليوسف ص 419-420.
[24]- الكافي في الأصول: الكليني -كتاب الحجة باب ذكر الصحيفة والجفر والجماعة- 1/239، وأنظر بصائر الدرجات: الصفاري 3/180.
[25]- بوارق الحقائق: محمد مهدي الصيادي الرواس ص 284.
[26]- بوارق الحقائق ص 184-285.
[27]- بوارق الحقائق ص 78-79.
[28]- الدررُ النَّقيَّةُ بآداب مريدي الطريقة الشاذلية أو مُعَالِمُ التَّحْقِيقِ بِآدَابِ أَهْلِ الطَّريق: أبو الفضل العباس أحمد بن منصور قرطام، طبعة 1440هـ-2019م ص 32-33.
[29]- النداء الأخير- الوصيَّةُ السيَاسيَّةُ الإلهيَّة للإمام الخُمَيْنيِ- ص40.
[30]- التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية 10/515.
[31]- عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص 118-119.
[32]- لطائف المنن ص 488.
[33]- التعرف لمذهب التصوف للكلاباذي 172.
[34]- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية: آية الله الخميني، الطبعة الأولى، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت- 1427ه/2006م، ص13.
[35]- الفرق بين الفرق ص 226، 247–248.
[36]- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية: آية الله الخميني ص 13.
[37]- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية ص 90.
[38]- فصوص الحکم: ابن عربي 1/103.
[39]- هو آية الله الشيخ محمّد علي الشاه آبادي، ابن العالم الكبير الشيخ محمّد جواد الأصفهاني. ولد في أصفهان سنة 1292ه، من مؤلفاته: العارف الكامل، وهو مُربّي آية الشيعة الكبرى الخميني، وكان الخميني عندما يذكر أستاذه يعبِّر عنه عادةً بـ"العارف الكامل روحي فداه"، ويقول في إحدى كلماته: "طوال عمري لم أجد روحاً بلطافة روح آية الله الشاه آبادي وظرافتها".
[40]- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية: آية الله الكبرى الخميني ص 45.
[41]- طبقات الشعراني 2/139 الأنوار القدسية 1/4 على هامش الطبقات. لطائف المنن ص 489-490.
[42]- بوارق الحقائق ص 141-142.
[43]- إرشاد المسلمين لطريقة شيخ المتقين: أحمد عز الدين الفاروثي الشافعي الرفاعي، دار المقتبس ص45.
[44]- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: د. علي سامي النشار 2/279.
[45]- قلادة الجواهر ص 35-36.
[46]- الحكومة الإسلامية ص 52.
[47]- طبقات الشعراني 1/173.
[48]- الأصول من الكافي: الكليني1/ 402.
[49]- ذكرت معظم هذه المصنفات في كتَابيِّ: الذريعة إلى تصانيف الشيعة: للشيخ آقا بزرك الطهراني 6/360-361. وتفضيل أمير المؤمنين عليه السلام: الشيخ المفيد محمد بن محمد بن نعمان ص 4-8.
[50]- انظر أصول الكافي 1/443.
[51]- بحار الأنوار 26/267.
[52]- انظر أصول الإسماعيلية: سليمان بن عبد الله السلومي، دار الفضيلة 2/417
[53]- وسنذكُرُ بالتفصيلِ في هذا الكِتَابِ مُعتقدَ الصُّوفيَّةِ في ذلك,
[54]- الطريقة البكتاشية طريقة صوفية شيعية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربت وترعرعت في بلاد أهل السنة في تركية ومصر. تنسب هذه الطريقة إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري، والمولود في نيسابور سنة 646هـ/1248م، وينسب خنكار هذا نفسه إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة: عبد الرحمن بن عبد الخالق اليوسف، مكتبة ابن تيمية، الكويت، الطبعة الثالثة، 1406هـ- 1986م ص423.
[55]- انظر مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/60.
[56]- ضحى الإسلام: أحمد أمين طبعة القاهرة، 1952م ص 245.
[57]- حلية الأولياء: أبو نَعيمٍ الأصفهاني 1/86.
[58]- لطائف المنن ص 532.
[59]- المعارف المحمدية في الوظائف الأحمدية: عز الدين أحمد الصيادي الرفاعي الحسيني ص 2،73 الطريقة الرفاعية ص 127، بوارق الحقائق ص 196، القواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية، طبعة محمد أفتدي مصطفى، ص 7، 38، ترياق المحبين ص 12، الكنز المطلسم ص 26، تنوير الأبصار ص 36، إرشاد المسلمين ص97.
[60]- إرشاد المسلمين ص 45.
[61]- بوارق الحقائق ص 141، وانظر النجوع الزواهر: لأحد الرفاعيين والمعاصرين ص 113.
[62]- بوارق الحقائق ص 212، التصوف بين الحق والخلق: محمد فهد الشقفة ص196.
[63]- بوارق الحقائق ص 318.
[64]- بوارق الحقائق ص 56-57.
[65]- القواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية" ص 19، وكتاب روضة الناظرين ص 95، 136.
[66]- قلادة الجواهر ص 392- 393.
[67]- قلادة الجواهر ص 439.
[68]- ضوء الشمس 1/251 ،255.
[69]- ضوء الشمس 1/262- 263.
[70]- البرهان في تفسير القرآن للبحراني الشيعي ص 23، والخصال للقمي 2/583.
[71]- تفسير نور الثقلين: الحويزي 2/ 504.
[72]- مجموع الفتاوى 4/478-488. انظر الحديث صحيح مسلم 2408.