البريد الإلكتروني: drsregeb11@gmail.com

قضايا عقائدية

ابن عربي شيخ مشايخ أول من قال بوحدة الأديان



ابن عربي شيخ مشايخ أول من قال بوحدة الأديان

   إنَّ القول بوحدة الأديان ليس وليد هذا العصر بل هو قديم جداً : فالمحاولات الأولى تمثلت في الفلسفات الهندية ثم اليونانية، ثم تلقفتها الصوفية والفرق الباطنية التي تقوم في جوهرها على فكرة المزج والتلفيق بين مذاهب دينية مختلفة وآراء متباينة سياسية واجتماعية متعددة ومبادىء فلسفية وعلمية متنوعة.

     وأنَّ أوَّل من قال بوحدة الأديان، وتصويب كل الأديان بما فيها عبادة الأصنام، في التاريخ الإسلامي هو ابن عربي المشهور بمحيي الدين محمد بن علي بن محمد الطائي الحاتمي المرسي الأندلسي، الفيلسوف الصوفي الحلولي، الملقب بـالشيخ الأكبر، والذي يعدُ هو رئيس مدرسة وحدة الوجود. وابن عربي هذا يقدسه مشايخ الصوفية ولا يكادون يذكرون اسمه إلا مصحوبا بقول أحدهم: سيدي ابن عربي، أو يذكرون اسمه متبوعا بقولهم رضي الله عنه.

     لمَّا آمنت الصُّوفِيَّة أنَّ الوجود واحدٌ، وأنَّ الله تعالى هو عينُ خلقه، لزمَ الصُّوفِيَّة أنْ يؤمنوا بأنَّ جميعَ الملل والنحل واحدةٌ لأنَّها صدرت ممَّن له الوجود الواحد، وأنَّ الله تعالى هو عينُ جميع المعبودات، وهي مظاهرُ وتجلیاتٌ له، فلا فرقَ إذاً بين هذا المعبود أو ذاك. فما دامت كلُّها هي الله فقد انتفى التغايرَ والاختلافَ بينها، فالتوحيدُ إذاً هو عينُ الشرك، والإيمان هو عينُ الكفر، فلا فرقَ إذاً بين دينٍ أنزله الله تعالى في كتبه وبعثَ به رسلَه، ودینٍ ابتدعه الإنسانُ من تلقاءِ نفسِه بهواه وحسبِ شهواته، ونسجتُه أوهامُه وشطحاتُه، ما دامَ الله هو الوجودُ المطلقُ.([1])

      قال ابن عربي: "فإيَّاكَ أنْ تَتَقيَّدَ بعقدٍ مُخصوصٍ، وتَكْفُرَ بمَا سواه، فيفوتُك خيرٌ كثيرٌ، فكُنْ في نفسك هُيولِي لصورِ المُعتقدَاتِ كلِّها".([2])

   ابن عربي يذهب إلى تصحيح عبادة قوم نوح للأصنام، فجعلَ هذا الخبيثُ قومَ نوحٍ الذين عبدوا الأصنام لم يعبدوا إلاَّ الله، وإنَّهم بذلك موحدون حقاً، فلذلك كافأهم الله الذي هم نفسُه وذاتُه بأنٍ أغرَقهم في بحارِ العلمِ بالله. قال ابن عربي: "(مما خطيئاتهم) فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، (فأدخلوا ناراً) في عين الماء، (وإذا البِحـارُ سُجِّرَت)..(فلم يجدوا من دون الله أنصاراً)، فكان اللهُ عينَ أنصارِهم، فهلكوا فيه إلى الأبدِ".([3])

     وهكذا راحَ ابن عربي يعيثُ فساداً في بقيَّةِ قصص الأنبياء، ومن شاء فليرجع إلى كتبه ففي كل سطر سيجد رائحة وحدة الوجود. وكلامه هذا في الحقيقة هو إبطال للدين من أصله، لأنّ وعيد الله للكفار لا يقع منه شيء!! فهو وتلامذته يتسترون بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة، والتزي بزي النساك والتقشف، وتزويق الزندقة باسم التَّصَوُف.([4])

   ويقول التيجانية: "إنَّ الكفارَ والمجرمين والفجرة والظلمة ممتثلونَ لأمرِ الله تعالى، وليسوا بخارجين عن أَمرِه".([5])

   يقول ابن تيمية في بيان هذا المعتقد الصوفي: لقد كان ابن عربي وابن سبعين ونحوهم من ملاحدة الصُّوفِيَّة يعكسون دين الإسلام، فيجعلون أفضلَ الخلق من قال بوحدة الوجود، ولا يضرُّه بعد ذلك أنْ يكونَ يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، أو وثنياً. بل كان ابن سبعين وابن هود([6]) والعفيف التلمساني يجوِّزون للرجلِ أنَّ يتمسَّكَ باليهودية والنصرانية كما يتمسَّكُ بالاسلام، فجميع الأديان في نظرهم طرقٌ موصلةٌ إلى الله بمنزلة المذاهب الإسلامية، وكانوا يقولون لِمَنْ يختصُّ بهم من النصارى واليهود: إذا عَرَفْتُم التحقيق (أي وحدة الوجود) لم يضركم بقاؤكُم على ملتكم.([7]) وقال: "إن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة..". ([8])

     وقال ابن القيم في بيان وحدة الأديان عند الصُّوفِيَّة: "وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا عَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا غَيْرَهُ...".([9])

     وقال: "وَمَذْهَبُ الْقَوْمِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادَ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادَ النِّيرَانِ وَعُبَّادَ الْكَوَاكِبِ كُلَّهُمْ مُوَحِّدُونَ، فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ خَرَّ لِلْأَحْجَارِ فِي الْبِيدِ وَمَنْ عَبَدَ النَّارَ وَالصَّلِيبَ فَهُوَ مُوَحِّدٌ عَابِدٌ لِلَّهِ، وَالشِّرْكُ عِنْدَهُمْ إِثْبَاتُ وُجُودٍ قَدِيمٍ وَحَادِثٍ وَخَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ وَرَبٍّ وَعَبْدٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ عَارِفِيهِمْ([10])، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ، فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ مَا نَقُولُهُ".([11])

     ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ومن فروع هذا التوحيد (عند أهل وحدة الوجود) وثماره: أن فرعون ونمرود وأمثالهما مؤمنون كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة. وأن عباد الأصنام إنما عبدوا عين الله لا غيره. فهم على الحق والصواب".([12])

     ونذكرُ هنا طائفةً من أقوالِ أقوال ابن عربي شيخ المُتصوِّفةِ التي تُبيِّنُ اعتقادَ وحدةِ الأديانِ عندَهُ.

      يری ابن عربي أنَّ كلَّ من عبدَ معبوداً سواء كان الله أم غيره، فإنَّ عبادَّته حقةٌ، لأنَّ الذي عبدَ غيرَ الله فهو في الحقيقة يعبدُ الله نفسَه، لأنَّ تلك المعبودات مجلى للحق. يقول في ذلك: "والعارفُ المكمَّلُ من رأى كلَّ معبودٍ مجلى للحقِّ يَعبدُ فيه، ولذلك سمَوه كلُهم ألهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك. هذا اسمُ الشخصية فيه، والألوهية مَرتبةٌ تَخيَّل العابدُ لها أنَّها مرتبةٌ معبودةٌ، وهي على الحقيقة مجلىَ الحق لبصر هذا العابد المعتکف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص".([13])

     إنَّ الأديانَ والمعتقداتِ عند ابن عربي كلُّها حقٌ وصوابٌ، وكلُّ متبعٍ لدینٍ أو معتقدٍ مصيبٌ ومأجورٌ، فالشركُ في نظره يتحقَّقُ في عبادة الجمادات والحيوانات والأصنام والتماثيل والنار والملائكة والصليب، لأنَّ المشركَ لا يعبدُ في الحقيقة إلاَّ الله، وما عبدَ عابد إلاَّ الله، والأحدية تسري في هذه الأشياء، وهي السرُّ المعبود فيها، لا شخصها المنصوب هو المعبود.([14]) والشقاوة التي تكون للمشرك إنَّما كانت له بإرادة الله تعالى ومشيئته لا باختيار المشرك نفسه، وكذا بالنسبة لسعادة المؤمن، فلم تكن الشقاوة للأول بسبب عبادته غير الله، ولم تكن السعادة للثاني بسبب عبادته الله وحده، لأنَّ الأديان جميعاً واحدةٌ، فالجميعُ يعبدُ إلهاً واحداً، فالمشركُ يعبدُ سَرَّ الألوهية الساري في الأصنام والأوثان، كحال المصلي فإنَّ وجهَه متجهٌ للكعبة، لكنَّ قلبَه متجهٌ نحو ربهِّ خاصة.([15])

      وقد نصحَ ابن عربي أتباعَه من المتصوفة أنْ يؤمنوا بدینٍ واحدٍ مخصوصٍ، ويكفروا بغيره من الأديان، وأنَّ من فعل ذلك فقد فاته خيرٌ كثيرٌ، وطلب من الصوفي أن تكون في نفسه مادةً لصور المعتقدات كلِّها، لأنَّ الله أوسعُ وأعظمُ من أنْ يحصر عقدٌ دون عقدٍ، قال تعالى: (فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله) سورة البقرة:110، فما ذكر أين من أين، وذكر أنَّ ثمَّ وجه الله، ووجه الشيء حقيقته.([16])

      وقد أكد ابن عربي على أن من يعبد الله ومن يعبد الأحجار والأصنام كلهم سواء، في الحقيقة ما عبدوا إلاَّ الله إذ ليس ثمة فرق بين خالق ومخلوق. يقول في ذلك:

ومن أشعار ابن عربي في ذلك:

عَقدَ الخلائقُ في الإله عقائدَا ... وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه ([17])

لقد كنتُ قبل اليوم أنکرُ صاحبي .... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلاً كلِّ صورة ..... فَمَرْعَی لغزلان ودير لراهبان

 وبيتٌ لأوثان وكعبةٌ طائف ....... وألواحٌ توارةٍ ومصحفُ قرآن

أدينُ بدينِ الحُبِّ أنَّى تَوجَّهَتْ ..... رَكَائِبُهُ فالحبُّ ديني وإيماني([18])

- فرعون اللعين مات مؤمنًا: بناءً على القول بوحدة الوجود، وما تفرَّع عنه من القول بوحدة الأديان.

     ذهب ابن عربي إلى أنَّ فرعونَ مات مسلماً مؤمناً، وأنَّه من الناجين من عذاب الله تعالى. يقول في تعقيبه على قوله تعالى: (وقالت امرأت فرعون قُرَّة عينٍ لي ولك) سورة القصص:9: "فبه قُرَّتْ عينُها بالكمال الذي حصل لها، وكان قُرَّةَ عينٍ لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضَهُ طاهراً مطهراً، ليس فيه شيء من الخبث، لأنَّه قُبضَ عند إيمانه قبل أن يكتسبَ شيئًا من الآثام، والإسلام يجبُّ ما قبله، وجعله آيةً على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء، حتي لا يَيْأسَ أحدٌ من رحمة الله".([19]) ويقول: "إن فرعون مصيب حينما قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) النازعات:24؛ لأنَّ الله يتجلَّى في صورةِ معبودٍ، كما تَجلَّى في صورةِ فرعَون، ويتجلَّى في صورِ هادٍ كما يتجلَّى في صورةٍ رجلٍ، فكلُّ من عَمِلَ شيئاً فهو على صوابٍ! والذي يمنعُ من عبادةِ شيءٌ فهو كافرٌ! والذي يُخَصِّصُ ويقولُ: لا يُعبَدُ إلاَّ شيءٌ واحدٌ فهو كافرٌ... وإنَّ فرعونَ أُغرِقَ ليزولَ الحسبانُ والتَّوهمُ؛ فإنَّ فرعَونَ قال: (أنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى) فخصُّ نفسَه فقط، وكلُّ النَّاسِ أربابٌ، وليس خاصاً به، فلمَّا توهَّم هذا التَّوهمَ أُغرِقَ تَطهيراً له؛ ليزولَ الوهمُ والحسبانُ، حتَّى لا يَتوهَّمَ أنَّه هو الرَّبُّ وحدَه. ويقول: "فنجَّاهُ الله في نفسه، ونجَّی بدنه، فقد عمَّتْهُ النجاةُ حساً ومعنى".([20])

 



[1]- انظر ابن الفارض والحب الإلهي: محمد مصطفى حلمي ص 293، هذه هي الصوفية للوكيل ص 93، شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي ص 16.

[2]- فصوص الحكم –السفر السابع- ص113.

[3]- فصوص الحكم ص73.

[4]- انظر تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للشيخ برهان الدين البقاعي.

[5]- جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني:  علي حرازم برادة ص221.

[6]- هو: الحسن بن علي بن عضد الدولة أبي الحسن - أخ المتوكل على الله ملك الأندلس- بن يوسف بن هود، ولد في مرسية سنة 633ه، وتوفي في دمشق سنة 699ه، فیلسوف من الغلاة، انظر فوات الوفيات 1/249-250، القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/480- 482، الأعلام 3/221.

[7]- الصفدية  بتصرف– 2/269.

[8]- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: ابن تيمية ص 103.

[9]- مدارج السالكين لابن القيم 3/416.

[10]- هو عفيف التلمساني.

[11]- مدارج السالكين 3/479.

[12]- حقيقة التوحيد: الدكتور يوسف القرضاوي ص 16.

[13]- فصوص الحکم 195.

[14]- انظر رسائل ابن عربي -رسالة الألف- ص 3.

[15]- انظر المصدر السابق ص 4.

[16]- فصوص الحکم - بتصرف– 1/113.

[17]- شرح عبد الرحمن الجامي لفصوص الحکم ص 87، وهو بهامش شرح جواهر النصوص في حلِّ كلمات الفصوص لعبد الغني النابلسي.

[18]- دیوان ترجمان الأشواق ومحاضرة الأبرار ص 43-44.

[19]- فصوص الحکم 1/201.

[20]- المصدر السابق 1/212، وأنظر بقية قوله في شأن إيمان فرعون فصوص الحكم  1/210-212.