أ.د صالح حسين الرقب
أولاً: معنی التوحيد
إنَّ خيرَ من يحدثنا عن معنى التوحيد عن الصوفية المتأخرين ابن عربي. فهو أوَّل من وضع التصوف في قالب فلسفي، فأرسى دعائمَ مذهب وحدة الوجود، وهو - إلى يومنا هذا- الممثل الأكبر لهذا المذهب، وكل الذين جاءوا بعده كانوا متأثرين بأقواله، أو ناقلین عنه.([1])
لقد وضع ابن عربي أكثر من كتاب في بيان التوحيد الذي يؤمن به، ومن هذه الكتب: "الفتوحات المكية، وفصوص الحکم". وننقل طائفة من أقواله - نثراً وشعراً- التي تبيِّن مذهبَه في التوحيد.
- قوله: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها".([2])
- قوله: إنَّ العبدَ يعرفُ بالكشف عن طريق الأنوار المرتبة التي لها وُجِدَ، وأنَّه هو الربُّ والمربوب، والحبُّ والمحبوب.([3]) واضح من قوله هذا: أنَّه يَرى أنَّ الربَّ عين المربوب، وأنَّ المُحب هو عينُ المحبوب، فليس في الوجود إلاَّ واحداً.
- قوله: "والواحدُ لم يثني بغيره أصلاً. وإنَّما ظهر العددُ والكثرةُ بتصرفه في مراتب معقولة غير موجودة ، فكلٌّ ما في الوجود واحدٌ، ولو لم يكن واحداً لم يصح أنْ تثبت الوحدانية عنده سبحانه، فإنَّه ما أثبت لموجده إلاَّ ما هو عليه. وفي كل شي له آية ... تدلُّ على أنَّه واحدٌ.
وفي هذه الآية التي في كل شيء التي تدلُّ على وحدانية الله هي وحدانية الشيء، لا أمراً آخرَ، وما في الوجود شيءٌ من جمالٍ وغيره، وعال وسافل إلاَّ عارفاً بوحدانية خالقه، فهو واحدٌ ولابدَّ".([4]) ويشرح ابن عربي العلاقة التي بين الله والعالم مستعيناً بالتمثيل بالظل وصاحب الظل. فمثَّلَّ الله تعالى بصاحب الظل، والعالم بخياله أو صورته، ثمَّ يقول: "وإذا كان الأمرُ على ما ذكرته لك، فالعالمُ متوهَم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خًيَّلَ لك أنَّهُ أمر زائدٌ قائمٌ بنفسه خارجٌ عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر".([5])
- قوله: الربُّ حقٌ والعبدُ حقً ... يا ليت شعري من المكلف؟
إنْ قلت عبدٌ فذاك ميتٌ ... أو قلت ربٌ أنَّى يُكلفُ؟([6])
يقول ابن تيمية معقباً على شعر ابن عربي: إنَّ هذا القولَ هو مدلولَ وحدة الوجود، وأنَّه قرأ بخطِّ ابن عربي تعديلاً في الشطر الأول من البيت الثاني، فبدلاً من: إنْ قلت عبد فذاك میت، قال: إنْ قلت عبد فذاك نفي.([7])
- قوله: انظر إلى بدءِ الوجود وكنْ به ... فطناً ترى الوجودَ القديمَ محدثاً
فالشيءُ مثلُ الشيء إلاَّ أنَّه ... أبداه في عين العوام مُحدثاً
إذا أقسم الرائي بأنَّ وجودَه ... أزلاً فَبَرٌ صادقٌ لنْ يحنثا
أو أقسم الرائي بأنَّ وجودَه ... عن فًقْدٍ أحرى وكان مثلثا([8])
- قوله: "إنَّ العارفَ من يرى الحقَّ في كل شيءٍ، بل يراه عينَ كلِّ شيء".([9]) وقال في تفسيره لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشوری:11: "وإنْ جعلنا الكاف للصفة فقد حَدَّدْنَا، وإنْ أخدنا (ليس كمثله شيء) على نفي المثل تحقَّقَنَا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنَّه عين الأشياء، والأشياء محدودة، وإنْ اختلفت حدودُها فهو مُحدودٍ بحدِ كلِّ مُحدود، فما يَحدُّ شيء إلاَّ وهو حَدُّ الحقُّ. فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صَحَّ الوجود، فهو عین الوجود... فهو الشاهدُ من الشاهدِ، والمشهودُ من المشهودِ، فالعالمُ صورتُه، وهو روحُ العالم: المدبِّرُ له، فهو الإنسانُ الكبيرُ".([10])
- زعم ابن عربي أنَّ الله تعالى هو كلُّ ما نرى من صور العالم، وأنَّه یسری في الصور الطبيعية والعنصرية. يقول في ذلك: "صور العالم التي قلنا هي ظاهر الحق إذ هو الظاهر، وهو باطنها إذ هو الباطن، وهو الأوَّلُ إذا كان ولا هي، وهو الآخر إذا كان عينها عند ظهورها، فالآخر عين الظاهر، والباطن عين الأول".([11]) ويقول: "وهو من حيث الوجود عَينُ الموجودات: فالمُسمَّى محُدثات هي العلية لذاتها، وليست إلاَّ هو".([12]) ويقول: "فهو الأول والأخر والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثَمَّ من يراه غيره، وما ثَمَّ يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه ".([13])
وقد عقَّب الإمام زين الدين العراقي على القول الأخير لابن عربي فقال: "وأمَّا قوله فهو عينُ ما ظهر، وعينُ ما بطن. فهو كلامٌ مسمومٌ، ظاهره القول بالوحدة المطلقة، وأنَّ جميع مخلوقاته هي عينه، ويدلُّ على إرادته لذلك صریحاً قوله بعد ذلك: "وهو المُسَمَّى أبا سعيد الخراز،([14]) وغيرُ ذلك من أسماء المُحدثات"، وكذا قوله بعد ذلك: (والمتكلُّم واحدٌ، وهو عينُ السامع) ([15])".([16])
أقول ويدلُّ عليه قوله أيضاً: وصاحب المعرفة التامة هو من یری سريانَ الحقِّ في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلاَّ ویری عینَ الحق فيها.([17])
من خلال النصوص السابقة التي نقلناه عن ابن عربي يتَّضِح لنا أنَّ معنى التوحيد عنده وعند أتباعه الصوفية المتأخرين هو: أنْ لا ترى في الوجود إلاَّ الله، وألاَّ تصف بالوجود إلاَّ هو، فمن رأى في الوجود غیرَه معَه، أو وصفَ غيرَه بالوجود فقد أشرك وناقض التوحيد. أو هو: أنْ يشهدَ العبد أنَّ الوجودَ كلَّه بجميع مظاهره وأنواع تعیناته هو حقيقة الله تعالى، مع نفي كلِّ اثنينية في الوجود، فليس هناك ربٌّ وعبدٌ، ولا خالقَ ومخلوقَ، بل هناك موجودٌ واحدٌ فردٌ ليس له ثان. فالله تعالى عند هؤلاء الصوفية هو الوجود المطلق المبثوت في الأعيان الخارجية، وأنَّه عينُها لا غيرها، وما هذه المخلوقات إلاَّ مظاهر لتجلياته، فهو عینُ وجود كلِّ موجودٍ وحقيقته وماهيته. فما ثمَّ موجود إلاَّ الله، وما ثَمَّ إلاَّ الله. ([18])
يقول المقبلي: "وحاصل كلامهم أنَّ الله -سبحانه عما يصفون- حقيقةُ كلِّ شيء من جسم وعرض، بل وموجود ومعدوم، ومخيَّل وموهوم، وهو مايقولون: ليس في الوجود إلاَّ الله. ويريدون بالوجود أعمَّ ممَّا يريد غيرهم .. قالو: وكان کنزاً مخيفاً، وأراد أنْ يُعرف فظهر في صورٍ مختلفة، وهو كلُّ ذرةٍ من ذراتِ العالم، فإذا أشرت إلى أيِ حقيقةٍ فقد أشرت إليه بكماله. ولذا فرَّع ابن عربي على اتحاد الوجود عدم صحة قولنا: لا إله إلاَّ الله، لأنَّ الاستثناء يستلزمُ التَّعددَ، ولا تَعدُّدَ".([19])
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي إنَّ التوحيد عند الصوفية هو: "شهودُ الحقِّ في ذاته لذاته، وفناءُ الذات الخاصة في ذات الإلهية، وأنَّهُ ما ثَمَّ إلاَّ الله، فوجودُ العبدِ وجودُ الرب، وبالعكس، ولهذا يمكن أنْ يُنسبَ إلى العبد ما يُنسبُ إلى الربِّ من صفاتٍ وأسماءَ".([20])
[1]- انظر التصوف الثورة الروحية في الإسلام: د. أبو العلا عفيفي ص 187، فصوص الحکم والتعليقات عليها - المقدمة - د. أبو العلا عفيفي ص 25.
[2]- الفتوحات المكية 2/604.
[3]- المصدر السابق 1/75.
[4]- رسائل ابن عربي – کتاب الألف- ص 4.
[5]- فصوص الحکم 1/103.
[6]- الفتوحات المكية 1/42.
[7]- مجموع الفتاوی 2/115، العلم الشامخ للمقبلي ص 543.
[8]- الفتوحات المكية 1/58.
[9]- فصوص الحکم ص 192.
[10]- فصوص الحکم 1/111.
[11]- المصدر السابق نفسه ص 112.
[12]- المصدر السابق نفسه ص 76.
[13]- المصدر السابق نفسه ص 77.
[14]- هو أحمد بن عيسى الخراز البغدادي، توفي سنة 277، وقيل سنة 286ھ، وقيل غير ذلك، من مشايخ الصوفية، أوَّلُ من تكلَّم في الفناء والبقاء، صحب ذا النون وابن أدهم وأبا الحسين بن بنان. انظر صفة الصفوة 1/595، الرسالة القشيرية 1/129، حلية الأولياء 10/246-247، طبقات الصوفية ص228-232، اللباب في تهذيب الأنساب 1/351.
[15]- فصوص الحکم 1/77.
[16]- مصرع التصوف للبقاعي ص 66.
[17]- فصوص الحکم 1/181.
[18]- انظر مصرع التصوف للبقاعي ص 62-63،66، 69-70، مدارج السالكين
2/447-448، شرح القصيدة النونية لهراس 2/437-438.
[19]- العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ للمقبلي ص 533.
[20]- شطحات الصوفية ص 21.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
سبق أنْ ذكرنا أنَّ ابن عربي أوَّلُ من أرسى دعائمَ مذهب وحدة الوجود، وأنَّه المؤسس لمدرسته، والمفصِّلُ لمعانيه ومرامیه، بل هو أوَّلُ من أرسى نظريةَ وحدة الوجود في صورة فلسفيةٍ كاملةٍ، ولم تكن لهذه الصورة المتكاملة وجودٌ قبلَه. فالذين سبقوه كانت فكرةُ وحدة الوجود موجودةٌ عندهم دون أنْ تكون نظريةً فلسفيةً متكاملةً، فالأقوال التي وردت عنهم تدلُّ على اعتقادهم بالفكرة، لكنْ بمجموعها لا يمكنُ أنْ تكونَ نظريةً متكاملةً كالتي نجدُها عن ابن عربي، وأمَّا الذين جاوءا بعده ممَّن تكلَّموا في وحدة الوجود نثراً وشعراً، كانوا متأثرين بأقواله أو ناقلین عنه، أو مردِّدِين أقواله بعباراتٍ جديدةٍ، ولقد ظلَّ ابن عربي حتى يومنا هذا هو الممثلُ الأكبرُ لهذا المذهب الاتحادي، والصوفيةُ المعاصرة ُتنافحُ عنه، وعن معتقداتِه، وتزعمُ أنَّ خصومَه لم يفهموا مرامي أقواله.([1])
والحقيقة أنَّه لا ینکرُ على ابن عربي القولَ بوحدة الوجود إلاَّ جاهلٌ أو مكابرٌ، فكلُّ فقرةٍ من فقرات كتابه "فصوص الحكم"، وكثيرٌ ممَّا يقولُه في "الفتوحات المكية" ينطقُ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ بأنَّ له مذهباً في وحدة الوجود، ملك عليه زمامَ عقلِه وروحِه، وتفرَّعَ عن هذا المذهب كلُّ ما ذكره من مسائل الفلسفة والتصوف الكبرى.([2])
وتقوم وحدة الوجود عند ابن عربي على أصلين اثنين:
الأول: أنَّ الأشياءَ ثابتةٌ في العدم:
يقول ابن عربي في ذلك: إنَّ الأعيانَ لها العدمُ الثابتةُ فيه، وما ظهرَ حكمُ العددِ إلاَّ بالمعدود، والمعدود منه عدمٌ، ومنه وجودٌ، فقد يُعدمُ الشيءُ من حيث الحسَّ، وهو موجودٌ من حيثُ العقل.([3]) ويقول في تفسير قوله تعالى (فلو شاء لهداكم أجمعين) سورة الأنعام:149،: "قلنا (لو شاء) لو حرف اقناع لا امتناع: فما شاء إلاَّ ما هو الأمر عليه، ولكن عينَ الممكن قابلٌ للشيء ونقيضِه في حكمِ دليلِ العقل، وأيُّ الحكمين المعقولين وقع، ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته. ومعنى (لهداكم) لبيَّن لكم".([4]) ويقول في تفسير قوله تعالى: (وما منَّا إلاَّ له مقامٌ معلومٌ) سورة الصافات:164: "وهو ما کنتُ به في ثبوتِكِ ظهرتَ به في وجودِكَ هذا إنْ كان لك وجودٌ. فإنْ ثبتَ أنَّ الوجودَ للحقِّ لا لك، فالحكمُ لك بلا شكَّ في وجود الحق... وإنْ ثبتَ أنَّك الموجودُ فالحكمُ لك بلا شكَّ، وإنْ كان الحاكمُ الحقُّ، فليس له إلاَّ إفاضةُ الوجود عليك، والحكمُ لك عليك، فلا تحمدُ إلاَّ نفسَك ولا تَذُمَّ إلاَّ نَفَسكَ، وما يبقى للحقِّ إلاَّ حمدُ إفاضةِ الوجود، لأنَّ ذلك له لا لك. فأنتَ غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤك بالوجود".([5])
ويقول ابن عربي: "فإنَّه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعَهُ الله على أحوال عينِه الثابتةِ التي تقعُ صورةِ الوجودِ عليها أنْ يطَّلَعَ في هذه الحال على اطلاع الحقِّ على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها، لأنَّها نسب ذاتية لا صورةَ لها.. ".([6])
يقول ابن تيمية في بيان ما ذهب إليه ابن عربي: لقد ذهب ابن عربي إلى القولِ بأنَّ الأعيانَ ثابتةٌ في العدم، أي المعدومُ شيءٌ ثابتٌ في العدم، وأنَّ وجودَ الحقِّ أفاضَ عليها، فوجودُها هو وجودُ الحق، وأنَّ المظاهرَ التي هي الأعيان الثابتة في العدم غير الظاهر الذي هو وجود الحق، فابن عربي يفرِّقُ بین وجودِ الأشياء وثبوتِها، فهي متميزةٌ بذواتها الثابتة في العدم، متحدةٌ بوجودِ الحقِّ العالم بها.([7])
إنَّ القولَ بأنَّ المعدومَ شيءٌ قد ابتدعه شيوخ المعتزلة، وذهب إليه كثيرٌ من الشيعة الرافضة، والفرقُ بين مقالة المعتزلة ومقالة ابن عربي، أنَّ المعتزلة يقولون: إنَّ الله خلق وجودَها، وأنَّ هناك فرقٌ بين وجودها ووجودِ الله تعالی. بينما ذهب ابن عربي إلى أنَّ عينَ وجود الأشیاء هو عینُ وجود الحقِّ. وما ذهب إليه ابن عربي باطلٌ شرعاً وعقلاً، وقد كفَّرَ بعضُ المتكلمين من قال بذلك. ووجهُ الغلطِ عدمِ التفريق بين علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنَّها مثبتةٌ في أمِّ الكتاب في اللوح المحفوظ وبین ثبوت عينها في الخارج. كما أنَّ الأشياءَ ليست لها وجودٌ في العدم، لأنَّ العدمَ ليس بشيء. ولكنْ لها وجودٌ في علم الله تعالى وتقديره فقط، وتقديرهُ تعالى للأشیاء سابقٌ لخلقه لها. ويمكنُ أنْ يُطلقَ على الأوَّلِ الوجودَ العلميَّ التقديريَّ، وعلى الثَّاني الوجودَ العينيَّ الخارجيَّ، وإلى هذا ذهب أهلُ السنة والجماعة، وقد دلَّت عليه نصوصُ الشرع والإجماع. قال تعالى في شأن نبيه زكريا عليه السلام: (وقدْ خَلَقْتُكَ من قبلُ ولم تَكُ شيئاً) سورة مريم:9، وقال في خلق الإنسان: (أو لا يَذْكُرُ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً) سورة مريم:17، وقال: (أم خُلقوا من غيرِ شيءٍ أم همُ الخالقون) سورة الطور:30، ففي الآية إنكارٌ لمن اعتقدَ أنَّه خُلقَ من غيرِ شيءٍ، أو هو الخالقُ لنفسِه، ولو كانَ المعدومُ شیئاً فلا فائدةَ من الإنكار، إذ يصحُّ أنْ يقال: ما خُلقوا إلاَّ من شيءِ، لكنَّ هو معدومٌ فيكون الخالقُ لهم شيئاً معدوماً. وقد دلَّ العقلُ على أنَّ القول بأنَّ وجودَ شيءٍ في الخارج قبل وجوده أمرٌ معلومُ الفساد، لأنَّ العدم ليس بشيء أصلاً، وأنَّ ثبوتَه ووجودَه وحصولَه في الخارج شيءٌ واحدٌ.([8])
الثاني: أن وجود الأعيان المخلوقات هو نفس وجود الخالق وعينه، ليس غيرَه ولا سواه: ومن أقوال ابن عربي في ذلك:
- قولُه: "ومن أسمائه الحسنى العلي، على من وما ثَمَّ إلاَّ هو؟ فهو العلي لذاته، أو عن ماذا، وما هو إلاَّ هو؟ فعلوُّهُ لنفسه، وهو من حيث الوجود عینُ الموجودات، فالمسمَّى مُحدثاتٍ هي العلية لذاتها وليست إلاَّ هو...".([9])
- وقولُه: "فكلُّ ما ندرکُهُ فهو وجودُ الحقِّ في أعيانِ الممکنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات. فكما لا يزولُ عنه باختلاف الصور اسمُ الظل، كذلك لا يزولُ باختلاف الصور اسمُ العالم أو اسمٌ سوى الحق، فمن حيث أحديته كونه ظلاً هو الحق، لأنَّه الواحدُ الأحدُ، ومن حيث كثرة الصور هو العالم... وإذا كان الأمرٌ على ما ذكرته لك فالعالم متوَّهمٌ ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خُيِّلَ لك أنَّه أمرٌ زائدٌ قائمٌ بنفسه خارجٌ عن الحقِّ، وليس كذلك في نفس الأمر.([10])
- وقولُه: "فاعلمْ أنَّك خَیالٌ وجمیعُ ما تدرکُه ممَّا تقول فيه ليس أنا خيال. فالوجود كلُّه خيالٌ في خيال، والوجودٌ الحقُّ إنَّما هو الله خاصة من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه".([11])
- وقولُه: "إنَّ الحقَّ المنزَّه هو الخلقُ المشبَّهُ، وإنْ كان قدْ تميَّز الخلقُ من الخالقِ. فالأمرُ الخالقُ المخلوقُ، والأمرُ المخلوقُ الخالقُ، كلُّ ذلك عين واحدة، لا، بل هو العينُ الواحدةُ وهو العيونُ الكثيرةُ".([12])
- وقولُه عن صور العالم: "هي ظاهرُ الحقِّ، إذ هو الظاهرُ وهو باطنُها، إذ هو الباطنُ، وهو الأوَّلُ، إذا کان ولا هي، وهو الآخر، إذ کان عينُها عند ظهورها".([13])
- وقولُه: "هو عينُ ما ظهر، وهو عینُ ما بطن في حال ظهوره، وما ثَمَّ من يراه غيرَه، وما ثَمَّ من يبطنُ عنه، فهو ظاهرٌ لنفسه، باطنٌ عنه".([14])
- وقولُه: "فما نظرتْ عيني إلى غيرِ وجهِهِ ولا سمعتْ أُذني خلافَ کلامِه([15])
- وقوله: "فسبحانَ من أظهرَ الأشياءَ وهو عينُها".([16]).. "وقد ثبت عند المحققين ما في الوجودِ إلاَّ الله، ونحنُ وإنْ كنَّا موجودين فإنَّما كان وجودُنا به، فمنْ كان وجودهُ بغيرهِ فهو في حكمِ العدمِ".([17])
- وقوله:
فممَّن تفرُّ وما في الكونِ إلاَّ هُو وهل يجوزُ عليه هُو أو ما هُو؟
إنْ قلتَ هُوَ فشهودُ العينِ تنكرُه أو قلتَ ما هُو فما هُو ليس إلاَّ هُو
فلا تفردْ ولا ترکنْ إلی طَلبِه فكلُّ شیءٍ ترَ ذلك الله ([18])
- وقوله: "فإنَّ العارفَ من يرى الحقَّ في كلِّ شيء، بل يراهُ عينَ كلِّ شيء".([19]) "ولكنَّه الله الجامعُ لكلِّ شيء في نفسه، الحاوي لكلِّ وجودٍ، الظاهرُ بصورةِ كلِ موجودٍ".([20])
يقول ابن تيمية في بيان حكم من صدرت عنه مثلُ هذه الأقوال: إنَّ قول ابن عربي: (بأنَّ وجودَ الأعيان نفسَ وجودِ الحقِّ وعينَه ليس غيرهَ ولا سواه)، قد ابتدعه، وانفردَ به عن جميع من تقدَّمَهُ من العلماء والمشايخ، وعن جميعِ مُثبِتَةِ الصانع من المسلمين، واليهود والنصارى، والمجوس، والمشركين، وقد قال به جميعُ الاتحادية من بعده، وهو حقيقةُ قولِ فرعون، والقرامطة المنکرین الوجود الصانع. وصاحبه کافرٌ، لكونِهِ جعلَ المخلوقَ عينَ الخالقِ، والمربوبَ هو الربُّ، وأنَّه لا مباينةَ بين الله الخالق وبين العبدِ المخلوقِ، بل وجودُ الخالق هو وجودُ المخلوق. وابن عربي وغيره من الاتحادية الذين يريدون مثل هذه المعاني ملاحدةٌ، يجب أنْ يستتابوا، فإنْ تابوا وإلاَّ قُتلوا.([21])
[1]- انظر فصوص الحکم والتعليقات عليه -المقدمة - د. عفيفي 1/25، التصوف الثورة الروحية في الإسلام لعفيفي أیضا ص 187.
[2]- التصوف الثورة الروحية في الإسلام ص 188.
[3]- انظر فصوص الحکم 1/76-77.
[4]- فصوص الحکم 1/82.
[5]- المصدر السابق 1/83.
[6]- المصدر السابق 1/60، وانظر ص 61.
[7]- انظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/175،4/6، جامع الرسائل -المجموعة الأولى- ص 104، مجموع الفتاوی 2/112.
[8]- انظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/175-176، 4/8، 14، 16-17.
[9]- فصوص الحکم 1/76.
[10]- المصدر السابق 1/103.
[11]- المصدر السابق 1/104.
[12]- المصدر السابق 1/78.
[13]- المصدر السابق 1/112.
[14]- المصدر السابق ص77.
[15]- الفتوحات المكية 2/604.
[16]- المصدر السابق.
[17]- المصدر السابق1/363.
[18]- المصدر السابق2/602.
[19]- فصوص الحکم 1/192.
[20]- المصدر السابق 1/27، وانظر ص 50-51.
[21]- انظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/176، 4/18، مجموع الفتاوی 2/490.