فضل ليلة القدر والعشر الأواخر من رمضان
أ. د صالح حسين الرقب
أيها الصائمون في رمضان والقائمون لياليه:
ها هي عشرتكم يا عباد الله قد حضرت، وها هو ثلث الشهر الأخير قد بدأ، هذا هو موسم المتسابقين، وسوق العابدين، وفرصة المجتهدين، هذه العشر التي كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يشد مئزره إذا دخلت، ويعتزل النساء للعبادة؛ لأنه كان يعتكف في المسجد، بعد أن أحيا ليله، وأيقظ أهله، وهذا فيه اهتمام بالأهل والأولاد، وليس أن يجتهد الأب، والبقية نائمون، وإنما هو اجتهاد واستنفار عام في البيت لهذا الحدث الكبير الذي وقع، وهو دخول هذه العشر، ومن الناس من لم يدركها؛ لأن الله تعالى كتبه في الأموات.
لقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالاً واتِّباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في اغتنام العشر، فكان كثير منهم يجتهدون في ليالي العشر اجتهادًا عظيمًا، وكان بعضهم يغتسل كل ليلة ليكون أنشطَ له في العبادة، ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه، ليخلو في محرابه يدْعو الله ويعبده، وهو في أكمل هيئة، وأبهى صورة، قال تعالى: (وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وقوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). فإضافته إلى المساجد المختصة بالقربات وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قربة.
وعن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده". وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)؛ رواه الطبراني في "الأوسط"
ومما يبين فضل العشر الأواخر من رمضان أمور:
الأول: أن الله تعالى أقسم بها في قوله تعالى سبحانه: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) إن الإقسام بليالي العشر من رمضان تنبيهاً على فضلها وشرفها وعظيم النعمة بها وتذكيراً للمخاطبين على كثرة بركتها وخيرها وحثاً لهم على اغتنام لياليها بالتقرب إلى الله تعالى بما شرع فيها من الطاعات وجليل القربات فإنها أفضل ليالي السنة على الإطلاق – كما أن أيام العشر من ذي الحجة أفضل أيام السنة على الإطلاق كما هو مذهب جمع من محققي أهل العلم.
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص تلك الليالي بمزيد من الاجتهاد ويوليها ما تستحق من العناية إشهاراً لفضلها وحثاً للأمة على طلب فضائلها وبركاتها ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مؤزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، وفي صحيح مســــــلم رحمه الله عن عائشـــة رضي الله عنها قالت: - تعني النبي صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر مالا يجتهد في غيرها)، وتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف تلك الليالي فيلازم المسجد فلا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان فكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العشر يقطع الأشغال ويفرغ البال ويشتغل بصالح الأعمال من صلاة وصدقة وتلاوة للقرآن وجود بأنواع الإحسان والذكر والدعاء استزادة من الخير والهدى. فتفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لها واعتكافه فيها من أكبر الأدلة على فضلها وشرفها.
الثالث: إن فيها ليلة القدر قطعاً، لقوله صلى الله عليه وسلم (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان). وقوله صلى الله عليه وسلم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر).
آداب الاعتكاف: وهذه جملة من الآداب في العشر الأخير من رمضان يحسن بالمعتكفين مراعاتُها، والأخذُ بها ليكون اعتكافُهم كاملاً صحيحا ومقبولاً بإذن الله.
أولاً: استحضارُ النيَّةِ الصالحةِ، واحتسابُ الأجر على الله تعالى.
ثانيًا: استشعارُ الحكمةِ من الاعتكاف، وهي الانقطاع للعبادة، وجَمْعِيَّةُ القلب على الله تعالى.
ثالثًا: ألاَّ يخرج المعتكفُ إلاَّ لحاجته التي لا بُدَّ منها.
رابعًا: المحافظةُ على أعمال اليوم والليلة من سنن، وأذكار مطلقة ومقيَّدة؛ كالسنن الرواتب، وسنَّة الضحى، وصلاة القيام، وسنَّة الوضوء، وأذكار طرفي النهار، وأذكار أدبار الصلوات، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك من الأمور التي يحسن بالمعتكف ألاّ يفوته شيء منها.
خامسًا: الحرصُ على الاستِيقاظ من النوم قبل الصلاة بوقتٍ كاف، سواء كانت فريضة أو قيامًا؛ لأجل أن يتهيأ المعتكف للصلاة، ويأتِيَها بسكينة ووقار وخشوع.
سادسًا: الإكثار من النوافل عمومًا، والانتقالُ من نوع إلى نوع آخر من العبادة؛ لأجل ألا يدبَّ الفتور والملل إلى المعتكف؛ فَيُمْضِيَ وقته بالصلاة تارة، وبقراءة القرآن تارة، وبالتسبيح تارة، وبالتهليل تارة، وبالتحميد تارة، وبالتكبير تارة، وبالدعاء تارة، وبالاستغفار تارة، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تارة، وهكذا.
سابعًا: اصطحاب بعض كتب أهل العلم، وخصوصًا التفسير؛ حتى يُستعانَ به على تدبُّر القرآن الكريم.
ثامنًا: الإقلال من الطعام والكلام والمنام؛ فذلك أدعى لرقَّة القلب، وخشوع النفس، وحفظ الوقت، والبعد عن الإثم.
تاسعًا: الحرص على الطهارة طيلة وقت الاعتكاف.
عاشرًا: يحسن بالمعتكفين أن يتواصوا بالحق وبالصبر وبالنصيحة والتذكير، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، والإيقاظ من النوم، وأن يَقْبَل بعضُهم من بعض. وبالجملة فليحرص المعتكف على تطبيق السُّنَّة، والحرص على كل قُربة، والبعد عن كل ما يفسد اعتكافه، أو ينقص ثوابه.
ملحوظات حول الاعتكاف:
أولاً: كثرةُ الزياراتِ وإطالتُها من قِبل بعض الناس لبعض المعتكفين، وينتجُ عن ذلك كثرةُ حديثٍ، وإضاعةُ أوقات.
ثانيًا: كثرةُ الاتِّصالات والمراسلات عبرَ الجوال بلا حاجة.
ثالثًا: المبالغةُ في إحضار الأطعمة؛ وذلك يفضي إلى ثِقَلِ العبادة، وإيذاءِ المصلين برائحة الطعام؛ فالأولى للمعتكف أن يقتصد في ذلك.
رابعًا: كثرةُ النومِ، والتثاقلُ عند الإيقاظ، والإساءةُ لمن يوقِظُ من قِبل بعض المعتكفين، بدلاً من شكره، والدعاء له.
خامسًا: إضاعةُ الفرصِ؛ فبعضُ المعتكفين لا يبالي بما يفوته من الخير، فتراه لا يتحرى أوقات إجابة الدعَاء، ولا يحرص على اغتنام الأوقات، بل ربما فاته بسبب النوم أو التكاسل بعضُ الركعاتِ أو الصلوات.
سادسًا: أن بعض الناس يشجِّع أولاده الصغار على الاعتكاف، وهذا أمرٌ حسن، ولكنْ قد يكون الأولادُ غيرَ متأدبين بأدب الاعتكاف، فيحصل منهم أذيَّة وإزعاج، وجلبةٌ وكثرةُ مزاح وكلام، وخروج من المسجد، ونحو ذلك. فإذا كان الأمر كذلك فبيوتهم أولى لهم.
ثمرات وحكم الاعتكاف:
1- المعتكف ذِكرُ الله أنيسُه، والقرآنُ جليسُه، والصلاةُ راحتُه، ومناجاةُ الحبيب متعتُه، والدعاءُ والتضرع لذَّتُه، إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم، لازم هذا المعتكفُ بيتَ ربِّه، وحبس من أجله نفسه، يقف عند أعتابه يرجو رحمتَه، ويخشى عذابه.
2- إن العشر الأواخر من رمضان خير من أوله وأوسطه، فإن الله تعالى قد اختص هذا العشر بمزيد من الأجور الكثيرة والخيرات الوفيرة، والله تعالى عليم حكيم يضع الأمور مواضعها اللائقة بها فلولا أن هذا العشر تستحق التفضيل ما فضلها. وكلما زاد إيمان العبد زادت رغبته في مناجاة ربه، والوقوف بين يديه، والتلذذ بعبادته.
3- الاعتكاف يؤصل العبودية لله وحده في قلب المؤمن؛ لأن مظاهره واضحة في أداء الصيام والصلوات، والتهجد بالليل، وتلاوة القرآن الكريم، والذكر، والاستغفار، والتوبة والإنابة إلى الله وحده.
4- الذاكر يستحضر عظمة الله الذي يذكره، وإلاّ فلا أثر لذكره، ويكفي المسلم الذاكر شرفًا أن الله يذكره كلما ذكر الله، وذلك قوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} البقرة: 152.
5- الاعتكاف يؤصِل الرجولة والقوة في المؤمن: وهذا الأمر واضح جليّ لكل من يتأمل في المنهج الفقهي للاعتكاف من حيث السلوك، وأداء العبادات، وتربية النفس والأعضاء.. كل ذلك يعدُّ دعوة صريحة إلى بناء الرجولة الإيمانية، وتأصيلها في المؤمن روحيًّا وجسديًّا. وما أحوج الأمة المسلمة إلى هذه الرجولة في شتى ميادين الحياة التي تحتاج إلى رجال في الدعوة الجهاد والسياسة، والاقتصاد.. وغيرها.
6- صلاة الليل برهان صدق العبد، ودليل محبته لربه، يتلذذ بها، ويتذوق حلاوتها، فهو يعظم ربه حيناً، ويحمده حيناً، ويسأله حيناً، ويستغفره حيناً. وعبادة الليل أشد نشاطاً، وأصفى ذهناً، وأتم إخلاصاً، وأكثر بركة، وأبلغ في الثواب من عبادة النهار: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) المزَّمل:6.