البريد الإلكتروني: drsregeb11@gmail.com

سؤال وجواب

حكم إقامة النُصُب التذكاري للشهداء أو غيرهم



حكم إقامة النُصُب التذكاري للشهداء أو غيرهم

 يسأل كثير من الناس عن الحكم الشرعي في النُصُب التذكاري الذي يقيمه ذوو الشهداء، أو زملاؤهم في التنظيمات في الأماكن العامة، وعلى قارعة الطريق، وفي تقاطع الدروب، سيما وأن الناس صاروا يتنافسون في ذلك، ويتأهب العديد منهم لنصب المزيد منها؟.

    وللإجابة على هذا السؤال نقول وبالله التوفيق والسداد :

      إنَّ الشهداء أحياءٌ عند الله، وكرامٌ عند الناس، قدموا أرواحهم في سبيل الله عز وجل، وبذلوا مهجهم من أجل عزة الأمة وكرامتها، فوجب علينا ألا ننساهم، وأن نجعل ذكراهم في نفوسنا خالدةً، نتأسى بهم ونسير على دربهم؛ ولكن بما لا يتعارض مع أحكام الإسلام, ولا يصطدم مع عقيدة المسلمين الخالصة؛ فقد ورد الأمر باجتناب الأنصاب في الآية التي تنهى عن الخمر والميسر, وكذا الأزلام, وقد نعت ذلك بأنه رجس من عمل الشيطان؛ قال عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان, فاجتنبوه لعلكم تفلحون". (المائدة 90(.

ويرى العلماء أن النُصُب يطلق على أحد معنيين -:

الأول: الأنصاب والأصنام مترادفان.

 الثاني: الأصنام هي الحجارة المصورة المنقوشة, والأنصاب هي الحجارة غير المصورة, وهو الأرجح لدى كثير من العلماء؛ كابن منظور, وابن جُريج, والفخر الرازي, والطاهر ابن عاشور, ود. وهبة الزحيلي, وغيرهم.

     قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان ( والمقصود: أن النُصُب كل شيءٍ نُصِبَ من خشبةٍ, أو حجرٍ، أو عَلَمٍ) , ومنه قوله تعالى: "كأنهم إلى نصبٍ يوفضون"؛ أي إلى علمٍ يسرعون .والأمر باجتنابها في الآية: هو اجتناب التلبس بالمفاسد التي كان العرب يفعلونها في الجاهلية, حيث كانوا يطوفون بها, ويذبحون عندها, ويلطخونها بالدم تبركاً, أو ينشرون اللحم عليها ليجفَّ ويصبح قديداً، أو تَجَنُّبُ استبدالها بعد فترة من الزمن بالأصنام المصورة كما فُعل بأنصاب صالحي قوم نوح, فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الأصنام المذكورة في سورة نوح ( وداً, وسواعاً, ويغوث, ويعوق، ونسراً) كانت أنصاباً لرجال صالحين من قوم نوح, فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا, فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنسَّخَ العلم عُبِدت . كتاب التفسير حديث ( 4920) .

   بناءً على ما سبق ؛ فإننا نرى أن إقامة النُصُب التذكاري للشهداء يدخل في إطار النهي الوارد في آية المائدة المذكورة , وذلك للأسباب الآتية -:

 -1إن من قواعد الشريعة الإسلامية (سَدُّ الذرائع) التي تؤدي إلى المفاسد في الاعتقاد , والتي يتسرب منها إلى القلوب والعقول شرك خفي، أو مشابهة للكفار في صنائعهم ، أو الغلو في التعظيم بالقول أو الاعتقاد أو الفعل، وهذا كله يوجب ترك إقامة النُصُب, حتى لا يصل الحد ببعض الأفراد، ولو في الأجيال القادمة إلى تعظيم أصحاب هذه الصور؛ أو الاعتقاد بأنها تضر وتنفع، لأنهم باستشهادهم صاروا أقرب منهم منزلة إلى الله عزو جل ؛ كما حدث لصالحي قوم نوح، سيما وأن المشابهة في الاسم بينها قائمةٌ؛ فهذا نصب, وذاك نصب, ومن المعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. 

 -2 إن الأموال الكثيرة التي تنفق في إقامة تلك النُصُب تدخل في إضاعة المال المنهي عنه، وهي من الإسراف المذموم، سيما وأننا واقعون تحت حصار اقتصادي خانق، ونخوض حرب استنزاف توجب توفير أي قرشٍ لمواجهة هذه الأزمة، خاصة وأن أعداد الشهداء في تزايد، فإذا انضم إليهم شهداؤنا السابقون أصبح العدد أكبر، فلو أقام كل ذوو شهيد نصباً لأصبحت بلادنا بلد الأنصاب .

 -3 إذا كانت الحكمة من إقامة هذا النُصُب هي أن تظل الأجيال تذكرهم وتقتدي بهم؛ فإن هذا يتحقق بتصنيف الكتب التي تسجل مناقبهم, وسيرتهم الجهادية، فضلاً عن إقامة الندوات والمحاضرات التي تُشيد بأعمالهم بين الحين والآخر، وتسمية الشوارع والمدارس والأماكن العامة بأسمائهم، وتربية النشء على الجهاد ومآثر الشهداء.

 -4 إن المقصد من إقامة هذه النُصُب لدى بعض الناس المباهاة والتفاخر بما قدموا من الشهداء، أو المحاكاة للآخرين من باب التقليد؛ أو التوجس من الملامة أمام الناس، وهذا رياء يبطل العمل . 

 5- إن إقامة النُصُب التذكارية للعظماء والأبطال من البدع التي دخلت حياة الناس وعاداتهم الاجتماعية، ولقد حذرنا رسول الله من البدع والمحدثات من الأمور في الدين فقال: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) فعلى المسلمين الاتباع لا الابتداع، وما دخلت البدع قوماً إلا أهلكتهم.

-6  إن في إقامة النُصُب تشبهاً بالكفار الذين يقيمون التماثيل والنُصُب تخليداً لعظمائهم وساداتهم وخاصةً اليهود والنصارى، وقد نهى النبي عن تقليدهم والتشبه بهم ؛ فقال: "لتَتَبِعُنَّ سنَنَ الذين من قبلكم، شبراً بشبر، أو ذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قالوا : اليهود والنصارى؟ قال: فَمَنْ؟ "، قال الإمام النووي: (المراد بالاتباع الموافقة في المعاصي والمخالفات لا الكفر) .

 -7 إن القول بجواز إقامة النُصُب بحجة أنها لا تُعبد من دون الله كما كانت في السابق يَدحضه حديث ابن عباس سابق الذكر لذلك؛ فإننا ننصح إخواننا بالإقلاع عن إقامة هذه الأنصاب، حذراً من الوقوع في دائرة المنهي عنه والتلبس بالإثم، وبعداً عن وزر هذه السُنة السيئة؛ حيث قال: (ومن سن سنة سيئة ، فعُمل بها بعده ، كان عليه وزرها، ومِثْلُ أوزارهم، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ) . قال الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان: (ومن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للناس من شجرة، أو عمود، أو وثن، أو قبر، أو خشبة، أو عين، نبع ماء، أو نحو ذلك، والواجب هدم ذلك كله، ومحو أثره).

    تحريراً في العاشر من ربيع الآخر لسنة 1422هـ الموافق 1/7/2001م.
هذا وبالله التوفيق، والله تعالى أعلم.

العلماء الموقعون :

1- د. يونس محيي الدين الأسطل:  أستاذ الفقه المقارن ورئيس لجنة الفتوى بالجامعة الإسلامية.

 2- د. صالح حسين الرقب: رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية أستاذ العقيدة بالجامعة الإسلامية.

3- د. جابر زايد السميري: قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية أستاذ العقيدة بالجامعة الإسلامية.

4- الشيخ عبد الكريم خليل الكحلوت: مفتي محافظة غزة.

5- الشيخ إحسان إبراهيم عاشور: مفتي محافظة خان يونس.

6- الشيخ سليمان نصر الله الفرا : مدرس التربية الدينية للمرحلة الثانوية

6- الشيخ  إسماعيل رفيق الفرا: مدير معهد دار الحديث الشريف. 

7- الشيخ محمد محمد لافي: مدير الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف.

8- الشيخ عبد الكريم خليل الكحلوت: مفتي محافظة غزة.

9- الشيخ سليمان الرومي: عضو المجلس التشريعي.