البريد الإلكتروني: drsregeb11@gmail.com

مقالاتي

تغيير المنكر فريضة شرعية



تغيير المنكر فريضة شرعية

أ.د صالح حسين الرقب

       قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( سورة النور: 19، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَتَأَمُرُنَّ بِالمَعْرُوْف، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَتَأَخُذُنَّ عَلَى يَدِ الْسَّفِيْهِ، وَلَتَأطُرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أَطْرَاً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ قُلُوْبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشكَ أنْ يَعمَّهم اللهُ تعالى بعذابٍ منه" .وقال: "والذي نفسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المنكرِ أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدْعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ." أخرجه الترمذي وحسنه، وصححه أحمد شاكر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم منصورونَ ومصيبونَ ومفتوحٌ لكُم، فمن أدركَ ذاكَ منكُم فليتّقِ الله وليأمرْ بالمعروفِ ولينهَ عن المنكرِ، ومن يكذبْ عليّ متعمدًا فليتبوّأ مقعدهُ من النار أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وصححه أحمد شاكر والألباني.

     وعن أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقوُل: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لم يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ اْلإِيمَانِ" رواه مسلم. إنَّ هذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وهو يوضح لنا أنَّ الإنسان يلزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رأى"  يُحتمل أن يكون المراد رؤية البصر، أو أنَّ المراد العلم بالخبر اليقين، والثاني أشمل وأعمُّ. وقوله صلى الله عليه وسلم: "منكم" أي من المسلمين المكلَّفين، فهو خطاب لجميع الأمة. وقوله "منكرًا" : وهو ترك واجب أو فعل حرام ولو كان صغيرة. وقوله "فليغيره":  فليزله ويذهبه ويغيره إلى طاعة. وقوله صلى الله عليه وسلم "بيده": إن توقف تغييره عليها؛ ككسر آلات اللهو وإراقة الخمر، ومنع من يظلم عن الضرب ونحوه. وقوله "وذلك أضعف الإيمان" :المراد أنَّ ذلك أدنى الإيمان، وأقله ثمرة وذهب ابن تيمية: إلى أن إنكار المنكر واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة: هي السلطان، فالسلطان أقدر من غيره، وعليه من الوجوب ما ليس على غيره، فان مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، واستدل بقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (سورة التغابن:16.

    إذًن كلُّ إنسان صاحب أمر ونهي (ولاة الأمر وجهة الاختصاص في الحكومة) يجب عليه أن يسعى إلى تغيير المنكرات، وإليكم هذه القصة مما ذكره ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة سبعمائة وثمانين للهجرة، توجه رجل من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة، فبات بالقرب من أبي النمرس فسمع حس الناقوس في جرس النصارى، فسأل عن ذلك، فقيل له: إن بهذه المنطقة كنيسة يعمل فيها كل ليلة مثل هذا الفعل، حتى ليلة الجمعة، وفي يومها والخطيب على المنبر، وهم يفعلون ذلك، فسعى عند جمال الدين المحتسب، وكان له سلطة في هدم هذه الكنيسة، فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها، فهذا الرجل تابع الأمر ولاحقه وسعى فيه وجاهد حتى زال المنكر. وعلى هذا فلم يكتف بإزالة المنكر بذهاب واحد أو كلمة واحدة بل لابد من الاستمرار حتى يحدث التغيير.

   إنَّ من يرى غيره يترك الواجبات ويرتكب المُحرَّمات ويسكت وهو قادر، ففي سكوته مفاسد شتى، قال الإمام الغزالي رحمه الله:  "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو طُوي بساطه، وأهمل علمه، وعمله؛ لتعطَّلَت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخَرِبت البلاد، وهلك العباد." وقال العلامة السعدي رحمه الله: "المعصية مع تكرُّرها وصدورها من كثير من الأشخاص وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها، يُظَنُّ أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأيُّ مفسدةٍ أعظمُ مِن اعتقاد ما حرَّم الله حلالًا؟! وانقلاب الحقائق على النفوس، ورؤية الباطل حقًّا؟! وقال: مجرد السكوت فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت، فإنه كما يجب اجتناب المعصية، فإنه يجب الإنكار على مَن فعل المعصية".


    وأما القول "لا إكراه في غزة ذات الوجوه المتنوعة". أي لا إكراه في إزالة المنكر، فمخالف للحديث المذكور ولعشرات من النصوص الشرعية، وأمَّا الاستدلال بقول الله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي (البقرة:256، ونحو ذلك من الآيات المشابهة؛ فيعلم كل دارس للشريعة الإسلامية أنَّها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أمَّا غيرهم من الكفار فيجبرون عليه؛ وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه: أن هذه الآية خبر معناه: النهي، أي: لا تكرهوا على الدين الإسلامي من لم يرد الدخول فيه، فإنه قد تبين الرشد، وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه مِنَ الْغَيِّ وهو: دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم، وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس، وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصغار فإنهم لا يكرهون على الإسلام لهذه الآية الكريمة ولقوله سبحانه في سورة التوبة) : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة: 29، فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصغار. وقد استدل أهل العلم، في ذلك، بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "نزلت في الأنصار، قال: كانت المرأة منهم إذا كانت نزرة أو مقلاة - الذي لا يعيش لها ولد- تنذر لئن ولدت ولدًا لتجعلنه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (لا إكراه في الدين) رواه البيهقي. قال شيخ المفسرين الطبري : "وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس"، ثم قال: "عنى بقوله تعالى ذكره:) لا إكراه في الدين) أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه".

    قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله عند ذكره بعض الفوائد المستنبطة من غزوة تبوك: "ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها، وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، وكذلك محالّ المعاصي والفسوق، كالحانات بيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرَّق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرَّق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً، وحرَّق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة، فإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليه كما أخبر هو عن ذلك" (زاد المعاد 3/571-572).

    وأمَّا القول: "فالإكراه أشرُّ ما يفسد المجتمعات؛ فهو مُنبت النفاق، ومفسد الأخلاق، وقاتل الطاقات.. شرُّ لا خير فيه!".. فهذا مع الأسف الشديد ما يقوله ويردده قوم من العلمانيون والليبراليين العرب في هذا الزمان، ولا يجوز لمسلم فضلاً عن طالب علم أن يردِّدَه، فهدف القوم ظاهر ومكشوف، وهو انتشار المنكرات والفساد في المجتمعات الإسلامية دون أن تقوم الحكومات بمنعها وإزالتها. وعدم إزالة المنكرات ومظاهر الفساد من المجتمع المسلم يكون ثمنه نزول العقوبة بالجميع، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها،) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة: 105، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل؛ إلا يوشك أن يعمَّهم الله بعذاب من عنده" أخرجه الترمذي وغيره، وقال: هذا حديث صحيح.  قال بلال بن سعيد: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا أعلنت ولم تُغيَّر أضرَّت العامة، وقال الإمام النووي: إذا كثر الخبث عمَّ العقابُ الصالحَ والطالحَ، وقال الحافظ ابن حجر: يكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي، وقال العلامة السعدي" : السكوت عن المنكر مع القدرة موجِبٌ للعقوبة".

      وأخيرًا فإنَّ من يرى أنَّ دعوة ولاة الأمر وجهات الاختصاص الحكومية بضرورة إزالة المنكـر هو من التطـرف، لأن فعل المنكرات من الحرية المكفولة للناس، فـإنَّه يكفر بما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو يلزمه أنَّ هدي الرسول غير صحيح، وهذا من نواقض الإسلام، فليراجع اعتقاده للضرورة.